نجاة الصغيرة... صوت الحب (5-15)

قصة حب تنتهي بزواج البطلة والمخرج في «شاطئ المرح»

نشر في 17-05-2020
آخر تحديث 17-05-2020 | 00:01
طافت ذكريات الطفولة بخيال المطربة نجاة، واستقرت عند شرفة منزل العائلة، وترديدها لأول مرة بصوت منغم نداءات أشقائها على «بائع الذرة»، وتلاشت ابتسامتها لحرمانها من التعليم بفرمان من والدها، وانتبهت إلى بكاء طفلها «وليد» وأسرعت إليه بقلب الأم الحانية، وودّعت قصة حبها الأول مع زوجها المهندس، وصارت أصغر مطلقة في الوسط الفني، وبينما تلملم جراحها، لاحقتها دعوى قضائية من المطربة ليلى مراد، لغنائها «ليه خلتني أحبك»، وتتابعت رحلة قيثارة الغناء نحو التألق والشهرة.
بدت نجاة الصغيرة كعصفورٍ حبيس في قفص ذهبي، ويتأمله الآخرون بنظرات الإعجاب، لكنهم يخشون إطلاق سراحه، ليطير في السماء، ويغيب عن أنظارهم أو يفقدون وصايتهم عليه، وحين تمردت على القيود، اعترضت العواصف طريقها، وتحوّل بعض المحتفين بموهبتها إلى رشقها بالحجارة، وكأن قدرها أن تعيش مع جوقة من الأوصياء، وعليها أن تخوض معركتها وحيدة، ولا تملك سوى موهبتها الطاغية وحب الجمهور لفنها الراقي.

واختزلت صاحبة الصوت الدافئ ملامح شخصيتها في ثلاث كلمات: “الإحساس والإرادة والصبر”، وأردفت مازحة: “وأظن أن الإنسان لا يصبر على السعادة مثلاً”، وعندما صارت شابة ناضجة، ضاقت بلقب “الصغيرة” بعدما كان محبباً إليها، وقالت في حوار معها “لم أعد صغيرة أرجوكم افطموني من هذا اللقب”، وطوت آلامها في سرداب سحيق، وكرّست وقتها بين فنها وابنها الوحيد “وليد”.

وذكرت نجاة في حوار أجرته معها إحدى المجلات الفنية عام 1967: “لك أن تتصوّر إحساسي العصبي عندما يذهب وليد إلى السينما حفلة الثانية بعد الظهر، ويتأخر حتى السادسة والربع، ثم لك أن تتصور أيضاً إحساسي عندما يصل إلى البيت، فالأمومة هي أكثر الأشياء التي تربط الإنسان بالأرض لولاها لطرت”.

اقرأ أيضا

واتجهت الأضواء إلى وليد منذ كان طفلاً رضيعاً تحمله أمه بين ذراعيها، ولا يكف عن البكاء إلا بالاستماع إلى غنائها، وبات نجماً يزاحمها في حواراتها على الصفحات الفنية، وظل مصدر السعادة الوحيد لها، وأغدقت عليه بالرعاية والحنان، وحرصت على أن ينال أرقى الشهادات العلمية، ليعوضها حرمانها من التعليم بفرمان من والدها محمد حسني البابا.

احتفلت نجاة بعيد ميلاد وحيدها وليد عندما أطفأ 12 شمعة، وقد استطالت قامته وبرقت عيناه بذكاء لامع، وكانت أمه تحاول إسعاده بهذه المناسبة، وانطلقت تغني بكل مشاعرها لأعز ما تملك، وحين داعبه أحد الحضور بقوله: “من الآن يجب ألا تذكر سنوات عمرك مراعاة لوالدتك”، قالت بزهو واضح: “أنا لا يسعدني أكثر من أن يكون ابني رجلاً”، وفي اليوم التالي ودعته في مطار القاهرة، قبل أن يسافر إلى لندن، ليلحق بالعام الدراسي في مدرسة “كلير مونت”.

شاطئ المرح

سافر وليد إلى لندن، ولأول مرة لم ترافقه والدته، وفي عام 1967 رُشحت لبطولة فيلم “شاطئ المرح” للمؤلف عدلي المولد والمخرج حسام الدين مصطفي، ويشاركها في البطولة كوكبة من النجوم منهم حسن يوسف وعبدالمنعم مدبولي ويوسف فخر الدين وفرقة ثلاثي أضواء المسرح (سمير غانم وجورج سيدهم والضيف أحمد)، وتدور أحداثه في إطار كوميدي تتخلله بعض الأغنيات بصوت نجاة وكلمات الشاعر حسين السيد وألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب، ومنها أغنية “القريب منك بعيد” و”عاليادي اليادي”.

تخوفت نجاة تكرار الفشل بعد تجربتها في الفيلم الكوميدي “بنت البلد” عام 1955 مع الفنان الكوميدي إسماعيل ياسين، واقتناعها بأنها لا تصلح للأدوار الكوميدية، ولكن المخرج حسام الدين مصطفى أقنعها بخوض المغامرة من خلال دور فتاة رومانسية تُدعى “نورا”، وأن تجسد الشخصية بتلقائية، وليس مطلوباً منها أن تضحك الجمهور، بل تظل على طبيعتها في التمثيل والغناء، لا سيما أنها ستشدو بألحان جديدة للموسيقار محمد عبدالوهاب.

وأثناء جلسات تصوير “شاطئ المرح” امتثلت المطربة الرقيقة لتوجيهات المخرج، ومع انتهاء المشهد الأخير من الفيلم، كانت على موعد مع مغامرة جديدة، حين فوجئت بحسام يطلبها للزواج، وبعد مهلة قصيرة من التفكير، وافقت على الارتباط بشرط أن يكون من دون ضجة إعلامية، ولكن الخبر تسرّب إلى الصحف والمجلات الفنية، وسط سعادة العروسين بنجاح الفيلم، ولكن زيجتها الثانية لم تستمر طويلاً، بعدها أعلنت نجاة تفرغها لابنها وفنها، ولم تتزوج مجدداً.

قطار القمة

كانت نجاة على موعد مع المتاعب، واستطاعت أن تتخطى الحواجز، وتلحق بقطار المنافسة على القمة، ودارت خلف الكواليس معارك لا يراها الجمهور، وأبطالها يتصارعون في الخفاء، بينما عصفورة الغناء تحلق في شدوها، وترف في فضاء مسكون بالعواصف، ولم يكن سهلاً أن تنتقي الكلمات والألحان، ورغم أنها قطعت شوطاً كبيراً، فإن القلق لازمها طوال مشوارها الفني، وظلت تبحث عن النجاح والتألق بين مطربي ومطربات عصرها، ومنهم عبدالحليم حافظ وصباح وشادية ووردة وفايزة أحمد.

ونشرت مجلة “الموعد” اللبنانية في عدد شهر أبريل عام 1972 تفاصيل المعركة الشرسة بين نجاة وفايزة أحمد، والأخيرة استطاعت في فترة قصيرة أن تحظى بجماهيرية كبيرة، ولقبت بـ”كروان الشرق”، وأصبحت المطربة المفضلة لدى الموسيقار محمد عبدالوهاب، وخصها ببعض ألحانه الرائعة، منها “هان الود” و”تهجرني بحكاية” و”بصراحة” و”ست الحبايب”، غير أنه ترك نجاة في مفترق الطرق، لخلافه معها بعد رفضها بطولة فيلم من إنتاجه.

واشتدت المنافسة بين المطربتين، وتناقل الوسط الفني أنباءً عن اشتداد الخلافات فيما بينهما، وأن كلاً منهما تتحاشى الأخرى وترفض الإفصاح عن شعورها الحقيقي، وبحسب مجلة “الموعد” فإن الحرب الشرسة بينهما انتقلت إلى الحفلات الغنائية، وأن نجاة حاولت تقليد ما كانت تقوم به فايزة منذ عشر سنوات، وتعاقدت على إقامة حفل غنائي “منفرد” لها بدار سينما “رمسيس”، ولكن الجمهور لم يُقبل عليها، فاضطرت إلى دفع مبلغ 200 جنيه لتغطي نفقاتها، حرصاً على سمعتها.

ومع مرور الوقت، اكتفت فايزة أحمد بألحان زوجها الموسيقار محمد سلطان، وبات الملحن الحصري لها، وقدم لها أكثر من 30 أغنية، منها “رسالة إلى امرأة” و”خليكوا شاهدين”، ولم تتعاون مرة أخرى مع ملحنين آخرين، لكنها حققت حضورها في الساحة الغنائية، وظلت تنافس نجاة ومطربات هذا الجيل، حتى رحيلها في عام 1983.

معارك سينمائية

بدت “السينما” كلمة السر في أزمات المطربة الرقيقة، منذ معركتها مع المطربة ليلى مراد حول أغنية “ليه خلتني أحبك” التي سبق أن غنتها مراد في فيلم “الحبيب المجهول”، وتكرر الأمر في خلافها مع الموسيقار محمد عبدالوهاب، لرفضها فيلماً من إنتاجه، وصولاً إلى إرسالها إنذاراً على يد محضر لمنتج فيلم “صوت الحب” الذي قامت ببطولته المطربة وردة الجزائرية.

وكانت معركتها مع المنتج عدلي المولد من أشهر معاركها السينمائية، وجرت أحداثها في بداية السبعينيات، وكانت نجاة سبق أن مثلت فيلم “شاطئ المرح” عام 1967 قصة وإنتاج المولد، وحقق نجاحاً كبيراً، ما جعله يرشحها لبطولة فيلم “صوت الحب” من إنتاجه، وكعادتها طلبت نجاة معرفة عدد الأغنيات التي ستغنيها، ومن سيقوم بتأليفها وتلحينها، وطلبت أن يلحن لها عبدالوهاب أغنيتين، وبليغ حمدي أغنيتين.

واعترض المنتج عدلي المولد على تلحين عبدالوهاب، وقال إنه لا يستطيع أن يدفع له أجره، وقبلت نجاة أن يلحن بليغ حمدي الأغنيات الأربع، ثم عادت في اليوم التالي تطلب لحناً لعبدالوهاب استثماراً لاسمه في الدعاية للفيلم، وسجلت لبليغ أغنية “العيون السود” و”كان ياما كان” و”سكة العاشقين” و”يا خسارة نسي”، لكنها فوجئت بالمطربة وردة تغني “العيون السود”، وخشيت على الأغاني المتبقية أن تذهب إلى مطربات أخريات، فغنت في حفلة واحدة “سكة العاشقين” و”يا خسارة نسي”، وفيما بعد غنت المطربة ميادة الحناوي “كان ياما كان”.

وثار المنتج لغناء نجاة أغنتين، وقال إن هذه أغاني فيلم “صوت الحب”، وهناك عقد مع نجاة يحرم عليها أن تغنيها قبل عرض الفيلم، واشتعل الخلاف بينهما، وأرادت نجاة أن تسجل عليه موقفاً قانونياً، فأرسلت إليه إنذاراً على يد محضر، تحمله مسؤولية تأخير تصوير الفيلم، والمفارقة أن المولد كان يشتغل بالمحاماة، ورد عليها هو الآخر بإنذار مماثل، يحملها مسؤولية هذا التأخير، لأنها أرادت تغيير المخرج حلمي حليم، ليحل بدلاً عنه المخرج حلمي رفلة، وطالبها بتغيير لقب “صوت الحب” الذي يسبق اسمها في الدعاية لحفلاتها الغنائية، لأنه اسم فيلمه المسجل في العقد بينهما، ولا يجوز لها استخدامه.

واحتدم النزاع بين نجاة والمولد، وأدركت المطربة أنها إذا لجأت للقضاء فإنها ستدخل في معركة غير متكافئة مع محامٍ بارع، والأخير أسند بطولة الفيلم للمطربة وردة، وحقق نجاحاً كبيراً عندما عُرض في عام 1973، وكسبت نجاة لحني “سكة العاشقين” و”نسي” ولقب “صوت الحب”.

«خليفة أم كلثوم» تظهر في حفلات شكوكو

في طفولتها، رفض والد نجاة أن تغني ابنته أغانيها الخاصة، وجعلها حبيسة مرحلة التقليد لأم كلثوم وأغاني الآخرين، وغضب منها حينما طلبت من الشاعر أحمد رامي أن يكتب لها أغنية، وكان يختار لها ملابس تبقيها في مظهر أقل من عمرها الحقيقي، ورفض دعوات المختصين بمنح حنجرتها وحبالها الصوتية راحة، وأخذ يرغمها على إحياء حفلات وسهرات وأفراح لعدة ليال متتالية.

وذكرت المؤرخة الفنية رحاب خالد، في كتابها “نجاة الصغيرة” أن والدها أصر على أن تبقى صغيرة، وكان يصنع لها “أكليشيهات” الدعاية، وكان يختار لها أثواباً مصممة للأطفال، وأحذية تلميذات المدارس، وجوارب قطنية بالدانتيل الأبيض، ورفض طلبات الإذاعة لتسجيل أغاني خاصة بها، وظل متعهدو الحفلات يضعون صورها القديمة في إعلاناتهم.

وفي أول مارس 1952، تعاقد لها مع فرقتي منوعات في وقت واحد، وكان يسهر بها ليلة مع فرقة الفنان محمود شكوكو بمسرح سينما الكورنيش بمحافظة الجيزة، وليلة مع فرقة إحسان عبده في صالة “البسفور” بميدان باب الحديد بالقاهرة، وبحلول الصيف يحملها إلى الإسكندرية لتحيي ثلاثين ليلة على مسرح “لونا بارك” بحي الإبراهيمية، ثم يعود بها مصابة بالسعال الحاد، ولأنه لا يؤمن بالطب، يسقيها الخل كعلاج مجرب للسعال، وظلت تقف أمام الجمهور شاحبة الوجه، وضعيفة الحنجرة، وتمسح دموعها قبل أن يراها أحد، وتحاول أن تبتسم، لكنها شاردة تقرض أظافرها أحياناً، وأحياناً أخرى تعبث بشعرها في عصبية.

واضطرت “خليفة أم كلثوم” إلى التمرد على والدها الذي يسيطر على كل شيء في حياتها، وتركت بيت الأسرة، لتسكن بمفردها، وتطوي مرحلة مليئة بالألم والعذاب، ويتخللها قليل من السعادة، ولازمها لقب “الصغيرة” ولم يعد مقنعاً بعد أن صارت زوجة وأم لطفلها الوحيد “وليد”. وحين سئلت عن ذلك، قالت في إحدى لقاءاتها الصحافية: “إن كان الصغر ميزة فأنا أعتز به، وإن كان عيباً، فأعتقد أن كثيرات يتمنين أن يكون عيبهن” ثم عادت بعد سنوات، لتقول بانفعال في إحدى حواراتها: “أنا لم أعد صغيرة أرجوكم افطموني من هذا اللقب”.

وقطعت نجاة طريقاً طويلاً، وحملت على كاهلها هموم طفولتها البائسة، وأعباء أبيها وزوجها الأول كمال منسى، وكلاهما أمعن في فرض الوصاية عليها، وبعد أن حصلت على الطلاق، كرست حياتها لابنها، وفي نفس الفترة، وقعت عقداً جديداً مع شركة “مصرفون” بدلاً من “كايروفون” وانتقلت للعمل مع الفنان محمد فوزي صاحب الشركة الذي رفع أجرها إلى 450 جنيهاً للتسجيل الواحد.

المطربة الرقيقة تحيى حفل عيد ميلاد ابنها قبل سفره إلى لندن

إنذار على يد محضر من «صوت الحب» لمنتج سينمائي

حاولت تقليد فايزة أحمد بحفل غنائي «منفرد» لكن الجمهور لم يُقبل عليها

عبدالوهاب يشعل المنافسة بين فايزة أحمد وعصفورة الغناء
back to top