نجاة الصغيرة... صوت الحب (4-15)

أصغر فنانة مصرية مُطلقة بحكم قضائي

نشر في 15-05-2020
آخر تحديث 15-05-2020 | 00:14
حلقت نجاة بعيداً عن بيت العائلة، وخفق قلبها بالحب للمرة الأولى، وتزوجت من المهندس الشاب كمال منسي، وتسرب خبر زواجهما إلى الصفحات الفنية، وتألقت المطربة الحالمة في سماء الفن، وأصيبت برهاب الكاميرا بعد فشل فيلمها «بنت البلد»، وانشغلت بحياتها الأسرية بعد إنجابها «وليد» الذي ملأ حياتها بالسعادة، وواصلت رحلة الصعود إلى القمة.
وقفت نجاة في شرفة منزلها المطل على النيل بحي الزمالك، وفكرت في حياتها الماضية، وطفولتها المتناغمة بين العذاب والفرح، وتذكرت عندما كانت طفلة تقف في شرفة بيت الأسرة مع أشقائها وهم ينادون بائع الذرة المشوية: «يا بتاع الدرة»، فتردد وراءهم النداء منغماً مرة، ثم تعيده أكثر من مرة بألحان مختلفة، وبانسجام شديد، وعلى نحو غامض تسلل إلى وجدانها سحر الموسيقى في بيت يمتلئ بالمواهب، فشقيقتها الكبرى خديجة ترسم بالريشة والفحم وتجيد الحياكة والتطريز، ونبيل خطّاط مثل والده، وعزالدين يدرُس في معهد الموسيقى العربية.

لم يكن أمراً سهلاً أن تتمرد نجاة على والدها محمد حسني، ولكن مشاعرها تضاربت بين حبها لأبيها ورفضها لوصايته المفرطة، وحاولت أن تفهم سر حرمانه لها من التعليم، من دون أن تجد إجابة شافية، وعندما كبرت الطفلة الصغيرة، أدركت أن الفنان بداخله سيطر على طريقته في التفكير، وانسحب إلى أسلوب تربيته لأبنائه، ولا تنسى فرحته عندما روت له ما جرى في معهد الموسيقى، عندما نالت إعجاب كبار الموسيقيين بغنائها، فقال لها بفخر إنه كان طفلاً مثلها عندما اصطحبه خاله ليدرس بالمعهد الديني في دمشق، وكان الطلاب يومئذ في قاعة الدرس يكتبون نماذج من خط الثُلث بالغ الصعوبة، وأراد الطفل أن يقلدهم فأمسك قلماً وكتب حرف الكاف، ثم رفع رأسه ليجد جميع الطلاب ينظرون إلى ما كتبه بدهشة لم يستطع حينها تفسيرها.

وروى لها والدها رحلته إلى القاهرة في عام 1912، وكيف تفتحت موهبته في فن الخط العربي، وأدركت نجاة الصغيرة كيف كان الأب يفكر ويرى مستقبل أطفاله، وهو الذي لم يعلِّم أحداً منهم في المدارس لاعتقاده أنها تفسد المواهب، ولديه ثمانية أبناء أذكياء موهبين، ربما لو وجد فيهم واحداً غبياً لما تردد في إلحاقه بالمدرسة!

اقرأ أيضا

وفي ذلك الوقت كلّف ابنه عزالدين بتعليم أشقائه على الآلات الموسيقية حتى تكوَّن في البيت تختٌ صغير «عزالدين يعزف على الكمان، وسميرة على العود، وفاروق على القانون»، وكان الثلاثة يقيمون حفلاتهم في صالون البيت، وجمهورهم من الأهل والجيران، وقد يغني معهم شقيقهم سامي تلك الأغنيات الخفيفة التي بات عزالدين يؤلفها ويلحنها بنفسه. وكان سامي رغم جمال صوته، يميل إلى العزف على الكمان والعود، ولا يصبر على حفظ الكلمات وأداء الألحان بدقة كما يريدها شقيقه.

وحاولت الطفلة نجاة تعلُّم العزف على العود مع أشقائها، ولكن قصر ذراعيها لم يمكنها من احتوائه، وكانت مهما تضمه إلى صدرها بقوة لا تبلغ أوتاره بأناملها. وذات مساء فاجأت أشقاءها قائلة: «سامي مش عاوز يغني لكن أنا عاوزة أغني لازم تسمعوني!» وتعالت ضحكاتهم، وبعدما ألحت طويلاً كي تغني معهم، سمحوا لها بالغناء، ومنذ تلك الليلة صارت مطربة حفلاتهم المنزلية.

وتتذكر نجاة أول ظهور لها على المسرح، عندما وقفت في الكواليس، وأزاحت طرف الستار المغلق بأطراف أصابعها لتطل على الصالة من خلال فرجة ضيقة، فترى أناساً كثيرين جداً، والكل يجلس في مكانه، ولا يوجد مقعد واحد شاغر، وتنشغل بهم للحظات قبل أن تنتبه إلى صوت مذيع الحفلة معلناً مفاجأة السهرة: «إليكم... تخت المطربة الصغيرة نجاة».

لم تدر نجاة هل كانت تقف في شرفة منزل الأسرة رقم 43 بشارع إبراهيم باشا، أم في شرفة منزلها بالحي الراقي بعد تمردها على والدها، وزواجها من حبيبها كمال منسي، وأفاقت من ذكرياتها على صوت بكاء طفلها (وليد) في الغرفة، وأسرعت إليه بلهفة الأم الحانية، وظلت تهدهده حتى يكف عن البكاء، ولم يسكت إلا عندما أدارت إحدى أغنياتها على آلة التسجيل، وعندئذ بدأ يهدأ ويضحك، وكانت تلك هي الطريقة الوحيدة لإسكاته.

الحب والعذاب

أضافت نجاة إلى ألقابها الفنية، لقبي الزوجة والأم، وأمضت أسعد أوقاتها مع زوجها، وأصبح الحبيب والصديق ومستشارها الفني الذي يسدي إليها النصائح، وجاء طفلهما وليد ليوثق الرباط بينهما، ولكن شيئاً ما تغير في علاقتهما، وتسللت الخلافات بينهما، وتحوّل العش الهادئ إلى جحيم لا يطاق بعد أربع سنوات، وباتا على حافة الانفصال، وسعت إلى تجاوز الأزمة بالطلاق الودي، لكنه رفض وتحوّلت القضية إلى ساحات المحاكم.

وتصدّر الخبر صفحات الجرائد والمجلات الفنية، وخرجت المطربة عن صمتها، وقالت: «القضية لاتزال منظورة أمام المحاكم، وأعتقد أنه اقتنع أخيراً بذلك، وتكلمنا معاً في هذا الموضوع» وحين سُئلت: «وماذا بعد الطلاق؟» قالت: «لا شيء غير الاستقرار».

وعن أسباب الخلاف، قالت: «أشياءٌ كثيرة، منها أنه يريد أن يفرض وصايته، وأحياناً تكون الوصاية شيئاً جميلاً، إذا كان الزوجان على وفاق، وأعتقد أن زواجي كان مثل زواج الكثيرين، فالزواج عادة من العادات وليس مشروعاً خاضعاً للدراسة والتفكير، وهذا شأن الكثيرين ممن يتأثرون بعواطفهم، والخسارة عندي مثل الإساءة أنساها دائماً، والمكسب الوحيد هو ابني وليد».

وحصلت نجاة على لقب «أصغر مطلقة بحكم قضائي» من بين نجمات مصر، فقد تزوجت كمال منسي قبل أن تبلغ السادسة عشرة من عمرها، ثم لجأت للقضاء طلباً لحكم الطلاق، وحصلت عليه بالفعل بعد 4 سنوات في عام 1959، إثر تدخلات الزوج في حياتها وفنها، لكنها لم تنس أنه والد ابنها الوحيد، وكان داعماً لها، وشديد التأثر والإعجاب بصوتها، وأحضر لها كبار المؤلفين والملحنين ليقدموها بشكل مميز، وحينئذ اشتهرت بأغانيها العاطفية مثل «أما غريبة»، و»أسهر وأنشغل أنا»، و»على طرف جناحك يا حمام» وغيرها.

معركة غنائية

لم تهدأ عاصفة طلاق نجاة، حتى لاحقتها أزمة أخرى، بعد أن رفعَت المطربة الراحلة ليلى مراد أوّل دعوى قضائية فنيّة ضد كل من نجاة الصغيرة والملحن كمال الطويل، لإهداء الأخير لحن أغنية «ليه خلتني أحبك» لنجاة، لتغنيها في الإذاعة بدلاً من مراد التي سبق أن غنتها في فيلم «الحبيب المجهول» عام 1955، وكانت تتأهب لتسجيلها لولا دخولها في شهور الحمل، واكتفت بنجاح الأغنية من خلال الشريط السينمائي.

وتناولت مجلة «الجيل» تفاصيل تلك المعركة الفنية في نهاية عام 1959، واستهلت بقول الإذاعية سامية صادق، وحينها كانت تشرف على برنامج «ما يطلبه المستمعون» أن الرسائل التي انهالت عليها وتطلب إذاعة هذه الأغنية تزيد على مجموع الرسائل التي طالبت بأغاني هذا الشهر مجتمعة، وفي كل يوم كانت تتلقى رسائل من كل مدينة وكل قرية في مصر، ومن سورية والكويت ولبنان والعراق والسعودية والأردن وشمال إفريقيا، وكلها تطلب في إلحاح إذاعة أغنية «ليه خليتني أحبك» بصوت نجاة الصغيرة.

بدوره، قال الملحن كمال الطويل، إن مولد الأغنية بدأ عندما زاره الشاعر مأمون الشناوي، وتبادل معه أطراف الحديث، وأثناء الجلسة مد الشناوي يده إلى جيبه ليخرج المنديل، فخرجت في يده ورقة كان قد كتب فوقها مطلع أغنية، وكان يقول «ليه خليتني أحبك... لا تلومني ولا أعاتبك»، ولم يكتب مأمون بعد هذا المطلع حرفاً واحداً، وأمسك الطويل الورقة وراقته الكلمات، فأخذ في تلحينها قبل أن يجري تأليف الأغنية نفسها، وقال لمأمون إن ليلى مراد طلبت منه أن يعد لها أغنية للإذاعة، وفي الجلسة نفسها، مضى مأمون يكمل الأغنية حتى أتم كتابتها في نهاية الزيارة.

الحبيب المجهول

وتناول الطويل الأغنية، وأغلق على نفسه الباب أربعة أيام كاملة، وهو يعيد قراءتها أكثر من مرة، ويعيش في انفعالات كلماتها ومعانيها، حتى انتهى من وضع اللحن، وذهب بالأغنية وموسيقاها إلى ليلى مراد، التي أعجبت بها، فحفظتها وسجلتها على اسطوانة، وتصادف أن استمع المخرج حسن الصيفي إلى الأغنية، وكان يتأهب لتصوير فيلم «الحبيب المجهول» بطولة ليلى مراد، فطلب منها أن تغنيها في سياق الفيلم.

وذكر الطويل أن الأغنية عُرضت على لجنة النصوص، فاعترضت على بعض كلماتها، وعدّلتها، ولكن شركة الاسطوانات لم توافق على التعديل، وتنازلت ليلى عن غنائها، وأعاد الطويل الأغنية إلى جيبه، وقال إنها «لم تهن عليه» وفكر فيمن تصلح لكي تغنيها بدلاً عن ليلى، وأخيرا، وبالمصادفة، عثر على المطربة البديلة.

3 جلسات

وتناولت نجاة الصغيرة القصة لتكملها وهي تقول: «كنت في لبنان عندما التقيت هناك كمال الطويل، وكنت أقيم في فندق طانيوس بعالية، وأغني في الكازينو الملحق بالفندق، وقال لي إن لديه أغنية ممتازة تصلح لي، وانه يريد مني أن أحفظها لكي أسجلها في مصر، واستمعتُ إلى الأغنية، وأحسست أن معانيها تنفذ إلى قلبي، وراقني اللحن إلى حد أنني حفظت الأغنية بمجرد سماعها، وفي ثلاث جلسات استغرقت كل منها ساعة، كنت قد حفظت اللحن والكلمات، واشتريت حقوق الأغنية من المؤلف والملحن».

وعاد الطويل ونجاة إلى مصر، وسُجلت الأغنية التي تغنى بها الملايين في ذلك الوقت، وكان من المحتمل أن تنتهي القصة عند هذا الحد، لولا أن ليلى مراد طالبت بالأغنية، وتحوّلت الأزمة إلى معركة يفصل فيها القضاء، ولا يزال جمهور المطربتين الكبيرتين يستمتع بشدوهما لأغنية واحدة.

سر اختفاء أغنية نادرة بصوت نجاة وألحان فريد الأطرش

ظل صوت نجاة بعيداً عن ألحان الموسيقار فريد الأطرش حتى التقيا للمرة الأولى في أغسطس عام 1970، عندما لحّن لها أغنية «عايزاك يا حبيبي» للشاعر مرسي جميل عزيز، لكنها لم تخرج إلى النور حتى الآن، وفي سبتمبر 1998، نشرت جريدة «المساء» المصرية تقريراً مطولاً عن حكاية هذه الأغنية النادرة، ورواها عادل السيد (رئيس لجنة إحياء ذكرى رحيل الموسيقار فريد الأطرش وشقيقته المطربة أسمهان)، وكان قد مر على وفاة الأطرش 26 عاماً.

جاء اللقاء الأول بين نجاة والأطرش قبل رحيله بأربعة أعوام، وجرى تسجيل الأغنية بمصاحبة الفرقة الماسية بقيادة الموسيقار الراحل أحمد فؤاد حسن، وكان فريد قد عرض على نجاة رغبة إحدى شركات الاسطوانات في تلحين أغنية لها، وطبعها على اسطوانة، ورحبت المطربة بالفكرة، واحتفظت لنفسها بالحق في اختيار الكلمات، وبالفعل كتب لها الشاعر مرسي جميل عزيز أعنية «عايزاك يا حبيبي»، وتحمست نجاة للكلمات واللحن الذي وضعه فريد، ويومها قالت له مداعبة على وزن أغنيتها الشهيرة «شكل تاني لحنك انت شكل تاني»، وكعادته أهدى الموسيقار الأغنية للإذاعة من دون مقابل. ومرت الأيام، ولم تذع «عايزاك يا حبيبي» فاتصل فريد بالإذاعة لمعرفة السبب، فقالوا له إن لجنة النصوص اعترضت على بعض الكلمات ومطلوب تعديلها، وغضب الموسيقار الكبير لأنه اللحن الوحيد الذي قدمه لنجاة، ثم انشغل بالسفر للعلاج وإجراء الفحوصات، إلا أنه رحل في عام 1974، ولم يهتم أحد حتى الآن بظهور هذه الأغنية إلى النور.

وتقول كلمات الأغنية:

عايزاك يا حبيبي قوام عايزاك

عايزاك على طول أنا بترجاك

ناري بتناديك تبقى جنة بيك

يا حبيب الروح يا حياتي

يا كل حياتي يا دنيتي ديه

في غيابك آه لو تعرف إيه لياليه

لياليه ظنون في ظنون

لياليه ضياع وجنون

وعذاب بيبدل فيه شوية... شوية

يا حبيبي العمر شموع بتقيد

وتدفي القلب

لكن يا خسارة لها مواعيد

تخلص وتدوب

تعالى قبل ما تخلص نور الشمعة

تعالى قبل الحب ما يصبح دمعة

البقية في الحلقة المقبلة

حفلات نجوم الطرب تستضيف «تخت نجاة الصغيرة»

حاولت تعلُّم العزف على العود لكن قصر ذراعيها لم يمكنها من احتوائه

«وليد» لا يكف عن البكاء إلا على صوت مطربته المفضلة

ليلى مراد ترفع دعوى قضائية ضد مغنية «ليه خلتني أحبك»
back to top