نزار قباني ... أهل الشام يودعون الطائر العائد إلى بيته (الأخيرة)

نشر في 11-05-2020
آخر تحديث 11-05-2020 | 00:03
عاش نزار قباني ما عاش وهو يؤمن بأن الشعر هو سفر إلى الآخرين... "السفر إلى الآخرين مهنتي، ويوم أفقد جواز سفري، وحقائبي المليئة بالكلمات، سأتحول إلى شجرة لا تسافر... وأموت.
الشاعر صوت، ومن أبسط خصائص الصوت أن يترك صوتاً، ويصطدم بحاجز إنساني. وبدون هذا الحاجز الإنساني يصبح الكلام مستحيلاً، واللغة خشخشة أوراق يابسة في غابة لا يسكنها أحد". من مذكرات الشاعر في كتابه "قصتي مع الشعر".
كانت بداية فترة التسعينيات آخر مراحل عطاء الشاعر، ففي عام 1991 أصدر ديوان "أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء" الذي يضم أربعاً وعشرين قصيدة، منها: "عندما أعشق أزداد رقيا- سأدرس حتى أحبك... عشر لغات- عشرون محاولة لتشكيل امرأة- لماذا تنامين وحدك؟- الموجز في بلاغة النساء".

وفي عام 1993، نشر القباني ديوان "خمسون عاما في مديح النساء"، يضم عشرين قصيدة منها: "صانع النساء- حوار أبوي مع طفلة كبرت- من أنا في أميركا- من قتل مدرس التاريخ- متى يعلنون وفاة العرب؟- إلى أين يذهب موتى الوطن؟".

وبسبب هذا الديوان، عاد النقد والهجوم مجددا عليه من خلال قصيدة "متى يعلنون وفاة العرب؟"، التي انتشرت بشكل كبير جدا وحملت الطابع السياسي. ويقول فيها:

اقرأ أيضا

أحاول رسم بلاد...

لها برلمان من الياسمين

وشعب رقيق من الياسمين

تنام حمائمها فوق رأسي

وتبكي مآذنها في عيوني

أحاول رسم بلاد تكون صديقة شعري

ولا تتدخل بيني وبين ظنوني

ولا يتجول فيها العساكر فوق جبيني

أحاول رسم بلاد...

تكافئني إن كتبت قصيدة شعر

وتصفح عني إذا فاض نهر جنوني

وفي عام 1997 أصدر القباني كتابين "أبجدية الياسمين" و"الأعمال السياسية"، وفي عام 1998 نشر له كتاب بعنوان "لا"، وجزء كبير منه كان عبارة عن اختيارات مما نشره نزار خلال حياته من قصائد، فقد جافاه الشعر مرتين في حياته فقط، إحداهما كانت قبل خمس سنوات من وفاته، مدة ستة أشهر، حيث أحس بالإحباط الشديد، فالموت بالنسبة إليه هو موت الشعر، كما تقول ابنته هدباء قباني.

نهاية القصيدة الدمشقية

بعد أن تجاوز نزار أزمته القلبية الأولى عام 1997 ولزم سريره وبيته، تعرض في الثلاثين من إبريل عام 1998، في الساعة الرابعة فجر الخميس، لأزمة أخرى، لكنه لم يتمكن من تجاوزها هذه المرة، ليرحل الشاعر السوري الكبير نزار قباني عن عمر 75 عاما.

ويتحدث الكاتب "شمس الدين العجلاني"، في مقال خص به صحيفة الوطن السورية، عن اللحظات الأخيرة للشاعر الكبير نزار قباني وما حصل بعد وفاته أيضاً، ويقول:

جرت أحاديث خلف الكواليس، في وقت كان فيه الشاعر يصارع الموت ويعيش لحظاته الأخيرة، بأن أولاده أو ابنته هدباء لم تكن ترغب في دفن جثمانه بدمشق، وقيل حينها إنها أبلغت ذلك لأحد العاملين في السفارة السورية في لندن. والشاعر في سكرات الموت ترامى إلى مسامعه ما كان يقال، فصرخ بأعلى صوته: أعيدوني لمن علمتني أبجدية الياسمين. وطلب الورقة والقلم، وخط وصيته بخط يده، وهو على فراش الموت في لندن، قائلا: إنني أرغب في أن ينقل جثماني إلى دمشق ويدفن فيها في مقبرة الأهل.

وأعرب في وصيته عن رجائه من جميع إخوته وأهله تنفيذ هذه الرغبة، قائلا في وصيته: أعتبرها نهائية؛ لأن دمشق هي الرحم الذي علمني الشعر وعلمني الإبداع وأهداني أبجدية الياسمين. واختتم وصيته قائلا: هكذا يعود الطائر إلى بيته والطفل إلى صدر أمه.

حافظ الأسد

ويقول صباح قباني أخو نزار: رن هاتفي ليحمل إلي من لندن النبأ الحزين، صعقني الخبر الفاجع، وبعد الصدمة مباشرة، رغم الوقت المبكر، حزمت أمري وهاتفت مكتب رئاسة الجمهورية، وقلت للموظف المناوب "آسف" مرتين، مرة على الاتصال المبكر، ومرة على نقل الخبر الحزين الذي وصلني للتو من لندن كي يكون السيد الرئيس حافظ الأسد أول من يعلم به، كي لا ينتهي إليه فيما بعد عن طريق وسائل الإعلام. وبعد نصف ساعة عاود الموظف الاتصال بي ليطلب مني أن اجتمع فورا بوزير الإعلام الدكتور محمد سلمان، الذي استدعي على عجل، ليكون في مكتبه، كي يبلغني الترتيبات التي وجه بها السيد الرئيس، والتي تقضي بأن ينعى نزار من قبل ثلاث مؤسسات رسمية (وزارة الخارجية- وزارة الثقافة- وزارة الإعلام)، واتحاد الكتاب العرب واتحاد الصحافيين في الجمهورية العربية السورية، إضافة إلى أهله وأقربائه.

يتابع صباح: وعند عودتي إلى منزلي هاتفني وزير الخارجية فاروق الشرع ليعلمني أن السيد رئيس الجمهورية أمر بإرسال طائرة خاصة إلى لندن لتحمل جثمان الفقيد نزار إلى دمشق.

وصل جثمان الشاعر إلى دمشق مساء يوم الأحد، الثالث من مايو عام 1998، ورافق الجثمان على متن الطائرة التي وضعها الرئيس حافظ الأسد بتصرف عائلة نزار قباني كل من أولاده هدباء وعمر وزينب، وتنادى أهل الشام؛ الصغير ينبئ الكبير والرجل يخبر المرأة والصبي ينادي الصبية... إنه الدمشقي الذي ولد من رحم الياسمين، الذي يريد أن يعود الى حبيبته وتحقيق حلمه الأبدي كما قال: وودت لو زرعوني فيك مئذنةً... أو علقوني على الأبواب قنديلا.

وكانت دمشق بكل ناسها في استقبال ابنها البار، وتوجه الموكب الذي حمل الجثمان الملفوف بالعلم السوري الى مستشفى الشامي، لتبدأ مراسم التشييع الرسمية في اليوم التالي (الاثنين الرابع من مايو)، والتي ابتدأت الساعة الثالثة والنصف وانتهت الساعة السادسة والنصف، من دار شقيقه المعتز في منطقة المالكي، حيث جرى تشييع الشاعر إلى مقابر العائلة في منطقة الميدان في "باب الصغير"، ولأول مرة في تاريخ دمشق كسرت النساء التقليد الذي يحظر على النساء المشاركة في التشييع، ورافقن جثمان الشاعر إلى مسجد بدر، حيث تمت الصلاة على جثمانه، ومشت نسوة دمشق في جنازة الشاعر وهن يذرفن الدموع ويبكين شاعر الشام.

شهدت شوارع دمشق ذاك اليوم ازدحاما كبيرا لدى مرور الموكب الجنائزي، وعبر الموكب الشارع الذي أطلق اسمه عليه في منطقة أبو رمانة، ثم حمل المشيعون جثمان الشاعر وطافوا به سيرا على الأقدام. وبقي المشيعون متمسكين بجثمانه الملفوف بعلم سورية على أكتافهم وأيديهم، ولم يعيدوه إلى السيارة حتى وصلوا إلى مقبرة الباب الصغير، ترافقهم هتافات "زينوا المرجة والمرجة لنا" طوال تلك الفترة.

ومن أكثر الأبيات الشعرية التي تناقلتها الصحافة وقتها ما قاله القباني في قصيدته المشهورة "الوضوء بماء العشق والياسمين" من ديوان "الكبريت في يدي ودويلاتكم من ورق":

يا أهل الشام

من وجدني منكم... فليردني إلى أم المعتز

وثوابه عند الله

أنا عصفوركم الأخضر...

يا أهل الشام

فمن وجدني منكم... فليطعمني حبة قمح

أنا وردتكم الشامية يا أهل الشام...

فمن وجدني منكم، فليضعني في أول مزهرية

أنا شاعركم المجنون يا أهل الشام...

فمن رآني منكم فليلتقط لي صورة تذكارية

أنا قمركم المشرد يا أهل الشام...

فمن رآني منكم فليتبرع لي بفراش وبطانية...

لأني لم أنم منذ قرون

مسلسل غير دقيق

بعد رحيل نزار، وفي عام 2005 أنتجت شركة الشرق السورية مسلسلا من ثلاثين حلقة يتناول السيرة الذاتية للشاعر نزار قباني، كتبه قمر الدين علوش وأخرجه باسل الخطيب، وقام النجم السوري تيم حسن بأداء دور نزار في شبابه، والنجم السوري سلوم حداد لعب دور نزار في فترة نضجه حتى وفاته، أما في طفولته فلعب دوره الطفل مجد باسل الخطيب، وشارك في العمل عدد من نجوم الدراما السورية منهم "صباح الجزائري- أسعد فضة- قمر خلف- رنا أبيض- طلحت حمدي- تاج حيدر".

اختلف النقاد حول المسلسل مباشرة بعد عرض الحلقات الأولى منه على الشاشات، متهمين صناع المسلسل بعدم الدقة في عرض السيرة الذاتية للشاعر وغيرها من التفاصيل.

فالباحث والكاتب السوري الراحل "شيخ الصحافة السورية" شمس الدين العجلاني قال: المسلسل ليس له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بدمشق أو بطفلها نزار، فالأجواء العامة في المسلسل بعيدة عن دمشق شكلا ومضمونا، فالفنانون لم يوفقوا بتجسيد الشخصيات الدمشقية باستثناء صباح الجزائري (والدة نزار)، فمثلا شخصية توفيق قباني الدمشقي العتيق لم ترقَ لا صوتا ولا صورة. العمل يصوره أفندي وبس، ومتواجد دائما في البيت، بينما يقول عنه نزار: إذا أردت تصنيف أبي، أصنفه دون تردد بين الكادحين؛ لأنه أنفق خمسين عاما من عمره يستنشق روائح الفحم الحجري... إني لأتذكر وجه أبي المطلي بهباب الفحم، وثيابه الملطخة بالبقع والحروق. وشخصية نزار الشاب لم يكن فيها أي شيء يوحي بأنها دمشقية، بل نطقت ببعض الكلمات التي تؤكد أنها غير دمشقية. ويتساءل العجلاني: هل كان أهل دمشق يضعون المتوفى بثيابه البيضاء ووجهه مكشوف في التابوت (الحلقة 4 وفاة وصال أخته)، كما أن العمل لم يوضح الأسباب التي أدت لوفاتها... وغير ذلك مما فصله العجلاني من مغالطات كثيرة.

في مصر، قال الشاعر أحمد الشهاوي، وكان مقربا من نزار: من الصعب أن يلم مسلسل واحد بحياة القباني، لكنه استغرق في علاقات نزار العاطفية بشكل مبالغ فيه. كان من الممكن الاعتماد على مدونة لا تغفل جوانب أساسية من حياته.

أما ابنه عمر (والدته بلقيس) فصرح لمجلة سيدتي بأن العمل حافل بالأخطاء، ووقع في فخ المبالغة بالأداء والتركيز على أشياء قليلة الأهمية، وهو مخالف للقانون لأنه تم دون موافقتنا.

«حبيب القلب»

ترك نزار قباني إرثا عربيا كبيرا من الشعر تأثر به الناس عموما والفنانون خصوصا في أغانيهم، إلا أن أكثر من غنى القصائد النزارية كان النجم العراقي كاظم الساهر الذي رافق نزار قبل وفاته ويستمر في غناء شعره حتى الآن، فقد غنى الساهر ما يزيد على أربعين قصيدة، منها "إني خيرتك- زيديني عشقا- مدرسة الحب- إلا أنت- قولي أحبك- حافية القدمين- الرسم بالكلمات- صباحك سكر- إلى تلميذة- دلع النساء- كوني امرأة"... وغيرها.

منذ أن التقى كاظم بنزار لأول مرة في دمشق وعرض عليه لحن قصيدته "اختاري" توطدت علاقتهما، وسمح له بغناء ما يشاء من كلماته. ويروي الساهر عن علاقته بالقباني، في حوار نشرته جريدة "الحياة اللندنية" في أغسطس عام 1998.

يقول الساهر: لقد قدمت حفلا في سورية عام 1992 وغنيت "إني خيرتك فاختاري"، وعبرت خلال الحفل عن رغبتي الكبيرة في التعرف على الشاعر الكبير نزار قباني، وبالصدفة كان ضمن الحضور أحد أقرباء الشاعر. وبعد انتهاء الحفل فوجئ الساهر باتصال "نزار"، وهنأه على الأغنية، مشيرا إلى أنه عاود كتابة موسيقى الاغنية مرة أخرى وبتوزيع مختلف وأنجزها نهائيا في استديو الموسيقار الياس الرحباني. وعند اتصال الساهر به قال له نزار: برافو كاظم، أنا لم أعط القصيدة لأحد منذ 25 عاما. ويعتبرها الساهر من أهم أعماله، تليها مدرسة الحب وزيديني عشقا، وغيرها.

كان نزار يناديه "حبيب القلب"، وعندما لا يرضى عن عمل يقول "لم يعجبني"، ويقول كاظم: رغم متاعبه الصحية في أواخر أيامه، لكنه كان يخالف الأطباء ويصر على العمل على إجراء التعديلات على قصيدة "الحب المستحيل"، حيث كان يقول لكاظم بأنه سينهيها له كي تصدر في الألبوم بموعدها، وبالفعل بعد أشهر من وفاة نزار كانت الأغنية ضمن الألبوم، واتخذها الساهر عنوانا له. وعلى الرغم من الانتقادات التي طالت الساهر واتهامه بالتكرار، لاعتماده الكبير على كلمات نزار، إلا أنه كان وما زال يحقق مزيدا من النجاح في كل مرة.

بقي في نهاية الحديث عن سيرة حياة الشاعر الكبير نزار قباني أن نذكر بضع كلمات مما قاله في قصيدته "القصيدة الدمشقية" التي بدأنا بها سيرة الشاعر الكبير، لنختم بها رحلتنا مع أحد أهم الشعراء المعاصرين.

هذي دمشق... وهذي الكأس والراح

إني أحب... وبعض الحب ذبّاح

أنا الدمشقي... لو شرّحتمُ جسدي

لسال منه عناقيد وتفاح

ولو فتحتم شراييني بمُديتكم

سمعتمُ في دمي أصوات من راحوا

نزار وشعره... في عيون الكُتاب والدارسين

صدر العديد من الكتب التي تتحدث عن نزار قباني كسيرة حياة أو تحليل أو نقد لشعره أو تكريما له، وكان من أهمها: "آخر كلمات نزار للكاتب عرفان نظام الدين- وعروبة نزار قباني لأحمد الخوص وهناء برهان- نزار قباني... حياته وشعره، وهو من إعداد عبدالفتاح درويش- أسرار القصائد الممنوعة لشاعر الحب والحرية للكاتب محمد رضوان- نزار قباني... الحقيقة الكاملة لكاتيا شهاب- نزار قباني... قافية شموخ قاسيون، وهو من إعداد د. إسماعيل مروة ونزيه الخوري- نزار والتأسيس لنهضة شعرية وفكرية للدكتور إسماعيل مروة- نزار قباني... شاعر الغزل للكاتبة د. عزة أبو النجاة- النرجسية في أدب نزار قباني للكاتب د. خريستو نجم- نزار قباني... قصائد صنعت مجدي وقصائد تعرضت لمقص الرقيب للكاتب هاني الخير- نزار قباني... قنديل أخضر على باب دمشق للكاتب د. خالد حسن- الانزياح في شعر نزار قباني للكاتب محمود عبدالمجيد عمر- نزار قباني... دراسة جمالية في البنية والدلالة للكاتب د. عصام شرتح"... وغيرها الكثير من الكتب.

في عام 1993 تجدد النقد والهجوم على نزار بسبب قصيدة "متى يعلنون وفاة العرب؟"

جرت أحاديث خلف الكواليس والشاعر يصارع الموت بأن أولاده أو ابنته هدباء لم تكن ترغب في دفن جثمانه بدمشق

الشعر جافى قباني مرتين في حياته إحداهما كانت قبل وفاته بخمس سنوات واستمرت ستة أشهر

الرئيس السوري حافظ الأسد أمر بأن ينعى نزار من قبل ثلاث مؤسسات رسمية (الخارجية والثقافة والإعلام)

في أبريل 1998 تعرض الشاعر لأزمة أخرى لم يتجاوزها هذه المرة ليرحل عن 75 عاماً
back to top