نزار قباني... مسرحيته الشعرية اليتيمة جنونستان تنبأت بدولة داعش! (12-15)

الشاعر المتمرّد الحالم العاشق المتوحّد باللغة

نشر في 07-05-2020
آخر تحديث 07-05-2020 | 00:04
"وهم كبير حين يظن الشاعر أنه يكتب قصيدته وحده. إنني أشعر أحياناً أن البشرية كلها، والتاريخ بكل امتداده؛ الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي، وكذلك الأحياء والأموات... يشتركون في كتابة قصيدتي".
هكذا رد الشاعر الكبير نزار قباني في مذكراته (قصتي مع الشعر) على سؤال: من أين يأتي الشعر؟
ولعل استلهام الشاعر للتاريخ على تنوع مراحله، وارتكازه على التجارب البشرية، وحديثه الدائم عن المستقبل وكأنه سيعيش ألف عام، فضلاً عن عمله الدبلوماسي وحنكته السياسية، لعل كل ذلك يفسر لنا رائعته اليتيمة المستشرفة للمستقبل "جنونستان".
كان نزار متمسكاً بحريته وبتفرده وبالتغيير في الشعر، وكتب عن الحب أول مشواره لينتقل لاحقاً إلى الشعر السياسي، كما تحدثنا سابقاً. وفي السبعينيات، وبعد أن وضعت "حرب تشرين" التحريرية أوزارها (حرب استنزاف العدو الإسرائيلي)، التي قامت بها سورية ومصر ضد الكيان الصهيوني (10/6/ 1973) وانتهت باستعادة أراض عربية محتلة، وجد نزار نفسه مدفوعاً إلى كتابة قصيدة ميسون (1974) التي برزت فيها بشكل واضح مشاعره الوطنية وفرحه بنشوة الانتصار وحبه المتدفق لبلده، والذي لا يتوقف. وهو يقول فيها:

ها هي الشام بعد فرقة دهر/ أنهر سبعة وحور عين

آه يا شام كيف أشرح ما بي/ وأنا فيك دائما مسكون

اقرأ أيضا

جاء تشرينُ يا حبيبة قلبي/ أحسن الوقت للهوى تشرين

مزقي يا شام خارطة الذل/ وقولي للدهر.. كن فيكون

وطني يا قصيدة النار والورد/ تغنت بما صنعت القرون

بيروت الأنثى

ومن أبرز دواوينه الشعرية في السبعينيات ديوانٌ كتَبه لبيروت "إلى بيروت الأنثى مع حبي" عام 1977. ويضم خمس قصائد: "يا ست الدنيا يا بيروت- سبع رسائل ضائعة في بريد بيروت- بيروت محظيتكم... بيروت حبيبتي- إلى بيروت الأنثى مع الاعتذار- بيروت تحترق... وأحبك".

ماجدة الرومي

وبالحديث عن هذا الديوان الخاص، وعن قصائد نزار المغناة؛ فقد غنت الفنانة اللبنانية ماجدة الرومي من هذه المجموعة الشعرية قصيدة "يا ست الدنيا يا بيروت"، التي طبعت مسيرتها الفنية وصنعت جزءا من شهرتها، والأغنية من ألحان الملحن المعروف جمال سلامة. كما غنت ماجدة قصيدة "كلمات"، التي لحنها إحسان المنذر، كما غنت "مع جريدة" والألحان أيضا لجمال سلامة، وغنت "طوق الياسمين" من ألحان كاظم الساهر، وبعد وفاة نزار قباني غنت من قصائده "وعدتك"، التي لحنها كاظم الساهر، و"أحبك جداً" تلحين الفنان اللبناني مروان خوري.

ويقول نزار في قصيدته "يا ست الدنيا يا بيروت":

من باع أسوارك المشغولة بالياقوت؟

من صاد خاتمك السحري،

وقص ضفائرك الذهبية؟

من ذبح الفرح النائم في عينيك الخضراوين؟

من شطب وجهك بالسكين؟

وألقى ماء النار على شفتيك الرائعتين؟

قومي من تحت الموج الأزرق، يا عشتار

قومي كقصيدة ورد...

أو قومي كقصيدة نار

لا يوجد قبلك شيء... بعدك شيء... مثلك شيء

أنت خلاصات الأعمار

قومي من أجل الحب ومن أجل الشعراء

قومي من أجل الخبز ومن أجل الفقراء

قومي كي يبقى العالم يا بيروت...

ونبقى نحن...

ويبقى الحب

المرونة في التعديل

أما عن علاقة الملحن جمال سلامة بنزار قباني، فيقول عنها سلامة: جاءتني ماجدة الرومي في الثمانينيات أثناء الحرب اللبنانية، ومعها قصيدة لنزار قباني، وطلبت مني تلحينها لترسلها للجيش اللبناني. كانت بداية القصيدة تقول "نعترف أمام الله"، وكنت مهتما أن تكون بداية الأغنية جاذبة للجمهور، واقترحت أن يكون مطلع الأغنية "يا بيروت يا ست الدنيا"، ووافق نزار، ونجحت القصيدة. ويتابع سلامة: لم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي يقبل فيها نزار تعديلاتي التي أضعها على قصائده عندما لحنتها، فعندما طلبت مني ماجدة تلحين قصيدة "مع جريدة"، وكانت تريد أن تغنيها في نصف ساعة، قلت لها: "لو اتلحنت مش حتاخد أكتر من تلات دقايق"، فاتصلتُ بنزار وطلبتُ منه تطويل القصيدة، وقلت له: "ممكن أشخلع وأطبل مع كلمة (دوبني)"؟ فضحك، وقال لي: "طبل وعفْرتني"، وقلت له: القصيدة تقول إن الحبيب قرأ الجريدة ومشى، بس ما قلتش ماذا حدث للحبيبة بعدها، فضحك وقال لي: "عمري ما غيرت في حياتي كلمات قصيدة غير مرتين، مرة لعبدالحليم ومرة لنجاة، لكن علشانك هغير".

وأضاف سلامة: تاني يوم نزار بعتلي أربع صفحات.

وبالحديث عن نجاح أغاني ماجدة الرومي، بعد رحيل الشاعر الكبير، لابد أن نتوقف عند أغنية "وعدتك"، التي حققت جماهيرية كبيرة نظراً لما في كلمات القصيدة من إحساس عالٍ مرهف، وصل مباشرة مع ألحان الفنان كاظم الساهر إلى الملايين، وكانت أجمل أغنية في ألبومها "غزل"، على الإطلاق، بناء على آراء العديد من المستمعين والمتابعين.

في وقت لاحق، كشفت مجلة "نادين" أن الفنانة ماجدة الرومي طلبت من نزار قباني غناء قصيدة "ثورة الدجاج" عام 1991، لكن القباني أقنعها بالتراجع عن قرارها، بسبب المضمون السياسي القاسي في القصيدة.

عطاء نزار في السبعينيات كان كبيرا، فقد أصدر أيضاً ديوان "كل عام وأنت حبيبتي" عام 1978، ويضم تسع قصائد: "حب استثنائي لامرأة استثنائية- في الحب البحري- أقرأ جسدك... وأتثقف- كل عام وأنت حبيبتي- إلى حبيبتي في رأس السنة- هل تسمحين لي أن أصطاف- تأخذين في حقائبك الوقت وتسافرين- الحب في الإقامة الجبرية- أم المعتز".

وفي قصيدة "إلى حبيبتي في رأس السنة"، يقول نزار:

أنقل حبي لك من عام إلى عام

كما ينقل التلميذ فروضه المدرسية إلى دفتر جديد

أنقل صوتك... ورائحتك... ورسائلك

ورقم هاتفك... وصندوق بريدك...

وأعلقها في خزانة العام الجديد...

وأمنحك تذكرة إقامة في قلبي...

إنني أحبك

ولن أتركك وحدك على ورقة 31 ديسمبر أبداً

سأحملك على ذراعي...

وأتنقل بك بين الفصول الأربعة...

العمل اليتيم

وبما أننا مازلنا في النصف الثاني من السبعينيات نتحدث عن إنجازات شاعرنا القباني، فلابد أن نتوسع في شرح عمله المسرحي الوحيد في حياته وعنوانه "جمهورية جنونستان... لبنان سابقاً".

العمل من ثلاثة فصول... كتبه نزار في بدايات الحرب الأهلية اللبنانية في بيروت عام 1977، لكنه لم ينشرها إلا في عام 1988، دون أي إضافة أو تعديل، ويشير القباني في هذا السياق إلى أن وقائع الحرب بعبثيتها ووحشيتها بقيت هي هي.

ويقول النقاد في هذا العمل، ومنهم الناقد المسرحي المصري محمود سعيد: يضعنا نزار في هذه المسرحية منذ البداية أمام الثنائية، بل عالم من الثنائيات، ثنائية الأنا والآخر، وثنائية الجسد والفعل. وهنا تمثلت ثنائية الجسد والعقل في أبهى صورها، إذ إنه تم توطين الجسد كرد فعل مضاد للثقافة التي أقصت المرأة وحجبت عنها البوح بتخيلات هذا الجسد، إذ تدخلت الثقافة في تحديد مفهوم جسد الأنثى على أنه عورة يجب سترها. ومن هنا جاءت قوة الأنثى على النموذج الجسدي، الذي نحته الرجل وفق مفاهيمه. كما تدرجت في المسرحية مستويات الأنوثة من "لبنان" كأنثى تم انتهاكها وتدميرها، إلى المرأة التي دخلت لبنان مع زوجها، بعدما صعد المتأسلمون إلى السلطة، لتواجه المرأة فكرة الانفصال عن الزوج، إلا أنها في النهاية اختارت الزوج.

يقول الرجل للضابط: إن سفينة نوح كانت أكثر تقدمية، لأنها كانت تحمل على ظهرها الذكور والإناث دون تفريق.

إلا أن الضابط يصر على التفريق بين الزوجين لاختلاف الدين.

الرجل: وهل يعني هذا أنني سأذهب إلى غيتو المسلمين وزوجتي ستذهب إلى غيتو النصارى؟

الضابط: استنتاجك صحيح.

لكن الزوجين فضلا العودة إلى القرية، رافضين الدخول.

ويدخل نزار أيضاً في مشهد آخر: الصحافية الجريئة التي تحاول العبور أمام رجال الشرطة من "جمهورية جنونستان"، ودخلوا مع الفتاة الشابة الجميلة في حوار جدلي عقيم حول "رؤاهم واعتقاداتهم وإيمانهم" بالجمهورية المزعومة. لكن الفتاة وصلت أخيرا لتوظيفهم السليم، وهو أن جمهورية جنونستان ما هي إلا حمل كاذب، فما كان من الضابط إلا أن أطلق عليها النار لتموت، معتقدا أنه قتل الحقيقة. وكأننا نواجه "داعش" منذ كتابة المسرحية عام 1977، وهنا تبدو تقدمية نزار قباني كشاعر وكاتب مسرحي لنص يتيم. وفقاً للناقد المسرحي محمود سعيد.

ويقول نزار في المسرحية أيضاً:

ثوري على شرق السبايا والتكايا والبخور

ثوري على التاريخ وانتصري على الوهم الكبير

لا ترهبي أحداً فإن الشمس مقبرة النسور

وهنا تصطبغ شخصية الفتاة بالنزعة الثورية المشاكسة، رافضة الخضوع لأي سلطان، وخصوصا السلطة التي تمثل العادات والتقاليد التي تحول بين الفتاة ومن تحب، لتأتي هذه المسرحية كخطاب تحريضي انقلابي يحرض المرأة على سلطة الرجل.

الحديث عن المستقبل

نزار يتحدث دائما عن المستقبل، وكأنه سيعيش ألف عام، وكان لديه قدرة عجيبة على تجاوز الأزمات والصعاب، ويرى أن قدرة الإنسان ومعدنه الحقيقي يظهران في أوقات الشدائد. تجلى ذلك في المسرحية، عندما أرادت الصحافية أن تعبر عن رأيها وتقاوم جنون جمهورية جنونستان وتأسلمهم الزائف، حتى إن آخر عبارة لها كانت "جمهوريتكم حمل كاذب"، ثم أطلق عليها الضابط النار لتموت، إلا أنها لا تموت، وظل الصوت والأثر الواضح والقرار، لدرجة أن نزار جعل منها جملة تؤرق صاحب المقهى طوال ربع قرن، حيث يقول:

صاحب المقهى: ماتت، هل تظن أنها ماتت يا حكيم؟ إنني أعرف أن الموتى إذا ماتوا يذهبون إلى مكان آخر، إلا هذه المرأة؛ فإنها تتحول حيث يهبط الظلام على شوارع المدينة وتطرق كل البيوت وتوقظ كل النائمين، وتكتب على جدران المدينة بخط عريض... عريض: "جنونستان" أنت حمل كاذب.

معلم المدرسة: يا لها من كلمة مأثورة...

صاحب المقهى: يالمفارقات القدر... من يصدق أنني قتلت هذه المرأة، لأنها تلفظت بهذه الكلمة المأثورة!

نعود إلى إصدارات نزار خلال السبعينيات أيضاً، حيث أصدر مجموعته الشعرية "أحبك أحبك والبقية تأتي" عام 1978، ويضم هذا الديوان سبع عشرة قصيدة، منها: "كونشرتو البيانو- البرتقالة- تجليات صوفية- حين أحبك- أحبك أحبك والبقية تأتي- تناقضات ن. ق الرائعة- دعوة الى حفلة قتل- قصة قصيرة- الحب في الجاهلية- وصفة عربية لمداواة العشق- سأبدأ من أول السطر- راسبوتين بالعربي- الاستقالة- يوميات مريض ممنوع من الكتابة".

ويقول في قصيدة "سأبدأ من أول السطر":

سأبدأ من أول السطر... إن كنت تعتقدين

بأني سقطت أمام التحدي الكبير!!

سأبدأ من أول الخصر... إن كنت تعتقدين

بأني تلعثمت، مثل التلاميذ، فوق السرير

بأني تصرفت كالأغبياء

أمام دموع المرايا... وشكوى الحرير

وفي قصيدة "قصة قصيرة" يقول:

لا تقنطي أبدا من رحمة المطر

فقد أُحبك في الخمسين من عمري

وقد أحبك والأشجار يابسة

والثلج يسقط في قلبي، وفي شعري

وقد أحبك حين الصيف غادرنا

فالأرض من بعده تبكي على الثمر

وقد أحبك، يا عصفورتي، وأنا

محاصر بجبال الحزن والضجر

إذاً، كان لبيروت النصيب الأكبر من حياة نزار، ومازال هناك المزيد سنذكره، ونتوقف الآن عند بعض المواقف التي تعرض لها القباني خصوصا مع النساء. تقول ابنته هدباء: لقد تعرض والدي للعديد من المواقف المحرجة. مرة في بيروت كانت جارة لنا تطل على أبي من البلكون وتراقبه، كان أبي يحب المشي في البلكون، والبلاكين قريب بعضها من بعض. وكانت هذه المرأة تشاهده لسنين، وذات مرة استجمعت شجاعتها ودخلت بيتنا، فأدخلتها المربية عليه لتبادره بالسؤال قائلة: أستاذ نزار، أنا جارتكم وأريد أن أسألك شيئاً. قال لها: اسألي ما تريدين. قالت: هل تأكل وتشرب وتنام مثلنا؟

قال لها: بالطبع أنا آكل وأشرب وأنام مثل كل الناس. قالت: إذا كنت إنسانا مثلنا فلماذا لا تحكي مثلنا؟ ثم تركته في ذهول ومضت.

الجدة التي أغرمت بنزار!

تقول هدباء نزار: حكت لي حنان الشيخ عن زيارة قام بها نزار إلى صيدا، وكانت تريد الذهاب لرؤيته مع صديقة لها فلم تستطيعا، لأنهما كانتا صغيرتين، فطلبت من جدة رفيقتها مرافقتها لرؤية أمسية نزار الشعرية، فاستنكرت الجدة الأمر وسألتهما: ما هو الشعر؟ وهل يستأهل تحمل المشاق لأجله؟ ترجت الفتاتان الجدة حتى وافقت.

دخل نزار القاعة بطلته البهية، وإذا بالجدة تفتح عينيها وتصغي بانتباه لما بدأ يلقيه من شعر، وما إن انتهى حتى كانت بحال مختلفة، وأضحت إحدى المعجبات بنزار قباني... وتتابع هدباء: كان الكثيرون يحضرون له أشعارهم فيأخذ مسوداتهم ويقرأها بكل ضمير، فحبه الأساسي كان مخصصا للشعر. وكان رأي عبدالوهاب أن نزار شاعر بالدرجة الأولى، ولأنه فنان لم يحب المرأة بقدر ما كانت عينه كاميرا لاقطة للصور التي يريدها لكتابة القصيدة، ولا أعتقد أن الأمر بهذا التطرف، ولكن لفكرة عبدالوهاب وجاهة.

نزار وجد نفسه مدفوعاً بمشاعره الوطنية ونشوة الانتصار وحبه المتدفق لبلده إلى كتابة «ميسون» 1974

"وعدتك" حققت جماهيرية كبيرة لما في كلماتها من إحساس عالٍ مرهف وصل إلى الملايين مع ألحان كاظم الساهر

نزار تحدث دائماً عن المستقبل وكأنه سيعيش ألف عام وكانت لديه قدرة عجيبة على تجاوز الأزمات والصعاب

اتصلتُ بنزار وطلبتُ منه تطويل «مع جريدة» وقلت له: «ممكن أشخلع وأطبل مع كلمة (دوبني)»؟ فضحك وقال لي: «طبل وعفْرتني» جمال سلامة

ماجدة الرومي غنت «يا ست الدنيا يا بيروت» فطبعت مسيرتها الفنية وصنعت جزءاً من شهرتها

الرومي طلبت من نزار غناء "ثورة الدجاج" فأقنعها بالتراجع بسبب المضمون السياسي القاسي للقصيدة
back to top