هل يمتلك الأطفال خيالاً شعرياً؟

وقفة مع «الكائن المندهش الجميل» للأستاذ الدكتور علي عاشور

نشر في 01-10-2019
آخر تحديث 01-10-2019 | 00:00
غلاف الإصدار
غلاف الإصدار
اشتغل علي عاشور بدراسة الأطفال وأدبهم في مرحلة الإعداد للحصول على درجة الدكتوراه (١٩٩٨م)، وانشغل بأدب الأطفال انشغالا كبيرا؛ إذ آمن منذ البداية بأن للأطفال عالمهم الفطري الذي كثيراً ما نجهله وندّعي معرفته جزافاً حين نروح نكتب القصص لهم، أو حين نضع المناهج الدراسية لتلقينهم.
فدراسة علي لأدب الأطفال في جامعة إنديانا بالولايات المتحدة الأميركية، وتلقيه المناهج العلمية والبحثية، وتفاعله مع الدراسات الأنثروبولوجية، وإيمانه بمنهج المعايشة للظاهرة ورصدها، كل ذلك مجتمعاً جعل لأبحاثه ودراساته سمة مميزة، ونهجا يؤثر النوعي على الكمي، وينتصر للميدان بحثياً على الركون للحيطان في تلقّي المعلومة.
في هذا الكتاب الذي صدر حديثا وعنوانه "الكائن المندهش الجميل... قراءة في الخيال الشعري عند الأطفال" (2020)، نشهد هذه العناية التي أولاها علي عاشور للطفل، عبر رصده لظاهرة لا نلتفت إليها كثيرا عند الأطفال، على الرغم من اطّرادها، إلا أن عين الناقد الباحث ووعيه جعلاه يلتقط هذه الظاهرة، ويبني عليها بحثا شديد الأهمية والنضارة في فهم عالم الأطفال الذي يعسر فهمه علينا وإن ادعينا غير ذلك.

عالم الطفل اللغوي

لقد التفت علي إلى عالم الطفل اللغوي مندهشا من ذلك الكائن المندهش الجميل – كما يصفه - إذ رأى أن الأطفال عندما يسألون عن أشياء يلجأون إلى التشبيه في التعبير عما سألوا عنه، أو عندما يتحدثون كثيرا ما يطلقون تشبيهات شكّلت عند علي - لاطّراد الملاحظة ومعايشتها ومراقبتها - أهمية في وجوب التوقف عندها وربطها بالشعر ومفهومه وعالم الخيال الشعري.

هذا التوظيف للتشبيه سببه أن المعجم اللغوي للأطفال ضئيل إذا ما قُورن بالمراحل العمرية المتقدمة، ومثل هذا الشُّح على المستوى اللغوي -كما يرى علي - يجعل الأطفال يستخدمون التشبيه، والذي هو عندهم أحد علامات تكثيف الكلام، ويكون فطريا وليس متعمداً، كما أنه أحد علامات الشعريّة أيضاً.

كما أن المخيلة الشعرية في أصلها هي مخيلة فطرية تتقاطع مع عالم الأطفال وخيالهم، وربما كانوا هم الأقرب لهذا العالم المتخيل منا، إذ إن الأطفال يرون ما لا نرى، ويعبّرون ويصورون بآلية ما نجهله منها أكثر مما نعلم.

البيئة المحلية

فشرع علي في جمع التشبيهات التي يطلقها الأطفال في البيئة المحلية ووضعها في جداول أبجدية، متخذا منها مادته في استخلاص ما أطلق عليه الخيال الشعري عند الأطفال الذي هو مستمد من الأطفال أنفسهم لا من سواهم.

إن استقراء هذه المادة / التشبيهات خلص به للوصول إلى مفهوم يقوم على نقض مفهومنا للشعر لدى الأطفال، ويقيم مفهوما جديدا للخيال الشعري لديهم هم من وضعه لا نحن، إذ قارن علي بين ما يكتب من شعر للأطفال، وبين ما يطلقه الأطفال من تشبيهات فيقول:

"عند قراءة الكتابات المؤلّفة عن شعر الأطفال، وكذلك المجموعات الشعرية التي كُتبت لهم، يتضح أنها تنطلق في حقيقة الأمر من مفهوم الكبار للشعر وعوالمه التي سنّها الباحثون في النحو والبلاغة والأدب والعروض العربي، وهو مفهوم احتفى به الأسلاف للحفاظ على بيانيّة اللغة والتقاليد الشعرية العربية.

كما أن هذه المجموعات الشعرية التي كتبت للأطفال تنطلق من منظور الراشدين الذي تهيمن عليه المعايير والتقاليد الشعرية الموروثة وصرامة القواعد النحوية والعروضية، وهي أمور لا تلائم طبيعة الطفل وعالمه المُفعم بانطلاق الخيال، وممارسة اللعب باللغة، والولع بكسر القواعد اللغوية، إما عن عدم معرفة أو عدم احتفاء بها، وهو ما يوجب تسليط الضوء على الابداع الشعري الذي ينتمي إلى عالم الطفولة بالأصالة، حينئذ يكون الحديث للأطفال وليس عنهم".

الدلالات الاستدعائية

وقد استنتج علي في الفصل الأول من كتابه أن الأطفال في تشبيهاتهم يثيرون في ألفاظهم ما سماه بــ "الدلالات الاستدعائية"؛ وهي كل ما يمكن أن تثيره لفظة ما من دلالات إيحائية ضمنية تتجاوز حدود الدلالة الإشارية، سواء كانت دلالات عاطفية أو مقامية.

فحين يشبه طفل شعر أخته عند نهوضها من النوم بالشمس نجد لفظ المشبه به يقترن ضمنيا بالانتشار (أشعة الشمس)، واللون (اللون الأصفر)، والارتفاع (في السماء)، والقرب (الأخ والأخت)، وكل ذلك هو من الدلالات الاستدعائية الحافَّة التي يثيرها العلاقة بين المشبه والمشبه به.

ومثل هذه الرؤية هي التي جعلت "عليا" يخلص إلى أن هناك فرقا ما بين طبيعة الشعر الموجّه للأطفال من قبل الراشدين، وطبيعة الإبداع الشعري الصادر عن الأطفال أنفسهم، كما يستبين لنا عمق الفجوة بين المعجم المستخدم في كلا هذين المظهرين من مظاهر الشعر، حيث الكلمات في إبداع الطفل كاشفة ومصورة معبّرة بكل صدق عن عالمه، وعن علاقته الحميمية النافذة بهذا العالم، وما تتسم به من حوار حي مع مفردات الحياة والطبيعة من حوله. كذلك تبدو لغة الطفل وهي تتشكل في إبداعه على نحو يتسم بالإيجاز والكثافة والحيوية والتفرد.

أما في الفصل الثاني من الكتاب، فإن عليّا لم يدع القارئ يركن لخياله وتصوراته في كيفية استخدام هذه التشبيهات التي سطرها لنا في ملحق الفصل الأول من الكتاب، إذ ركّز في الفصل الثاني من الكتاب على كيفية استخدام التشبيهات القائمة في البيئة المحلية الكويتية، واستثمارها في تعليم الحروف الهجائية لأطفال مرحلتي الرياض والابتدائية، فيقول في مطلع هذا الفصل: "إن هذه الدراسة نضعها مقابل الدراسة الواردة في الفصل الأول من الكتاب، لنقف على تباين الرؤية واختلاف المنطلق بين الصورة المتخيلة لدى الأطفال وعالمهم الفطري ولدى الكبار وعالمهم الذهني ومسارات التقاطع والالتقاء والاختراق بين الرؤيتين في إنتاج الصورة واستقبالها".

وأخيرا، فمنذ أن كنت وعليا نتلقى العلوم في الجامعة، كان دائما يبحث عن الجديد والغريب من الموضوعات، إذ كان ولم يزل يتمتع بلُمع علمية، وشذرات بحثية، تجعله يصنع من العلم إبداعا، ومن الإبداع علما، يزاوج بينهما، وهو برزخ لا يجعلهما يطغيان، ومن خلاله يبغيان، بقدر ما يوازن بينهما.

الأطفال في تشبيهاتهم يثيرون في ألفاظهم ما سمّاه علي «الدلالات الاستدعائية»
back to top