جوزف أبي ضاهر في «يوميّات عابرة»

كثير المعاني والجماليات قليل المفردات

نشر في 05-01-2017
آخر تحديث 05-01-2017 | 00:00
No Image Caption
نحن بين جناحَي زمن السّرعة بامتياز. وقد يكون الوقت مقتنعاً بإدارة ظهره للنصوص الطويلة، التي عاشت عصوراً ذهبية في الأمس البعيد عندما كانت الأيّام تقول ما عندها على مهل، وعندما كان للوقت وقت كثير.
في جديده «يوميّات عابرة»، يوصي الشاعر جوزف أبي ضاهر قلمه بألّا يتمادى في اصطياد المفردات، ملزماً إيّاه، على لطف، بتحميل ظهور الكلمات ما استطاعت من المعاني شرط أن تقيم في مبانٍ لغويّة متواضعة، تستطيع معرفة ما في صدر الغيم من أسرار من دون أن تكون ناطحات سحاب.
تجاهل جوزف أبي ضاهر العناوين، واستعاض عنها بالأرقام، وقد يكون بذلك ترك متعة العنونة لقارئه بعد أن يخرج من النصّ موشوم العين بعطره.

يستهلّ الشاعر بوْحه بنذورات حميمة نذرها ليترقّى في التلاشي الذي يكثّف الحضور الانساني، فالنبع والنهر يصنعان البحر بذوبانهما فيه: «نذوراً نذرتُ/ لأصبح نبعاً، نهراً/ ولو ابتلعني البحر/ وصرت طعاماً لأسماكه». والناي أمٌّ تُرضع الجبل والوادي والسّهل بياض النغم الذي يعيد صياغة الجغرافية بإيقاع روحيّ ينفخ الحياة في صمت التراب: «نذوراً نذرتُ/ لأصبح ناياً، نغماً/ ولو سرقتني الريح/ وأهدتني إلى التلال والوديان والسهول».

بلوغ الذات

ومن أجمل نذور أبي ضاهر اتّحاده بالحبر، فهو ينثر جسده المضيء في ظلمة المجرة، ويعانق دم الأقلام حبيباً فتغدو المفردات أسراب قُبَل في سماء العيون: «نذوراً نذرتُ/ ليُذكّر جسدي في دواة حبر/ فيتّحد الحبر بي وأتّحد به/ مثل حبيبين/ وليُقرأ الكلام قُبلاً». ويعرف أبي ضاهر الخبير العتيق في لعبة الكلمة أنّ الممحاة مطلوبة قبل القلم من الشاعر، وذلك ليتخلّص من كلّ قديم فيه ويقدّم للحياة كلّ جديد طازج، مقطوف للتوّ من شجرة الروح: «نذوراً نذرتُ/ لأعطى ممحاة قبل أن أعطى قلماً/ علّي أتخلّص من عتيق ترسّبات كانت قبل الخبر أحياناً».

ويمضي أبي ضاهر في جديده منتقلاً من ضفّة معنى إلى ضفّة آخر، ويقف تحت قنطرة الجوع متأمّلاً من يفتح الكف ويطبقها على وهم رغيف لا يأتي، ما يعني أنّ إنساناً تحت الشمس سينفق العمر بفم لم تعرف الشفة فيه طعم الأخرى: «فتح كفّه من أجل رغيف / أطبقها من أجل رغيف /... وظلّ فمه فاغراً مدى الحياة». وفي رحلة البحث عن الذات، يعلن الشاعر فرحه عندما زار مرآته وعرف أنّه وصل إلى ذاته، إلى وجهه الذي يشبه نكهته الوجودية، بعدما أمضى كثيراً من العمر يَنْشُد رمزاً محاولاً أن يصل إلى الشّبه العميق معه: «أصبحتُ أشبه نفسي / خجلتُ من زمن أضعته في البحث عن رمز أتشبّه به». وفي غرف النّوم المتعدّدة يعدّ أبي ضاهر أسرّته الكثيرة، من سرير يحتضن بفرحه الطفولة إلى سرير يتحوّل خيمة رغبة، إلى سرير لا يصلح لأكثر من عينين تنشدان النوم إلى آخر سرير يصمت مثقلاً بالموت... وكلّ هذه الأسرّة يجمعها الغطاء الأبيض، الذي وحده يعرف ما يجري تحته ويعرف أنّه أحياناً غطاء خديعة لم تصل إليها يدُ عينٍ أو أذن: «سرير الولادات/ سرير الرغبات/ سرير النوم وسرير الغياب/ كلّ الأسرّة تحتاج غطاء أبيض/ اللون يكشف فعلاً/ أو يخدع بما لم يتمّ». ويطرق الحق باب أبي ضاهر، فيعرف أنّ لثيابه لوناً آخر، كان قبل أن يخرج من كتاب قانونيّ، لأنّ رغبات أهل العدل والحق والميزان المتّهم لا يستطيعون التخلّص من مطاردة رغباتهم لهم، ولذلك يرتدي الحق ألواناً لا تنتمي إليه، وليس له أن يتخلّى عنها: «الحقّ الخارج من كتب القانون يلبس ثياباً ملوّنة برغبات المتّكئ عليه».

وراء الكلمة

ويغمز أبي ضاهر من قناة أصحاب الطلسمة والألغاز في الكتابة، فيراهم يكتبون ما هو مفهوم وواضح بالنسبة إليهم فقط، وقد يعتبرون أنفسهم أسرى الخيبة والفشل إذا قرأهم أحد واصطاد مشيئة عقولهم في الحبر، لذلك هم يتبعون نصوصهم ليشرحوها، ما يعني أننا لا نستطيع قراءتهم إلاّ بوجودهم الشخصي: «نصوص كثيرة / يتبعها صاحبها لشرح مضمونها». وعليه، فإنّ أبي ضاهر يطيل الجلوس مع كلامه قبل أن يسلّمه للحبر يداً بيد، خشية أن يرجع إليه لابساً ثوب الذمّ والشتيمة: «أرتّب الكلام، قبل السماح له بمواجهة الناس/ لا أريده يرجع إليّ مذموماً».

وعند بوابة التاريخ، يعدّ أبي ضاهر ظلال الطغاة، وهم يكتبون التاريخ بماء ضميرهم الأسود، وحين ترفض كلمة الامتثال لسوادهم يكتبونها بسوادهم الأعظم حمراء يسيل الدم من جرح معناها: «كتب الطغاة التاريخ بالحبر الأسود / حاولتْ كلمة الهرب فقبضوا عليها وكتبوها بالحبر الأحمر».

ويدلّ أبي ضاهر بإصبعه على جدليّة النور والظلمة، فيجد النجم قصير عمر ولو في حضن سمائه: «كلّ نجم... ولد في السماء / معرّض للأفول»، ويسمّي كلّ من يطفئ مصباحاً بظلمة عينيه وقلبه ممجِّداً من ممجّدي الظلام: «كلّ من أطفأ مصباحاً مجّد العتمة»، ويمدّ قلمه على بساط اللغة، فيخبره بأن من الكلمات ما هو عشّ للظلمة، وقد تتعاون الكلمات بهمّة سوادها فتشكّل نصّاً جنائزيّاً يليق بوداع اللغة لا باستقبال الحياة: «كلمات عتمة فاقدة الحياة/ نصّ جنائزيّ في وداع اللغة». ومن مروحة مواضيع أبي ضاهر المتعددة، يبدو همّ الحريّة والمرأة حاضراً بأناقته، فيستغرب الشاعر كيف كلمة «الحرّية» سيّدة تطاع في دولة المؤنّث على اختلاف اللغات، وفي الوقت نفسه يبخل الكثيرون على الاعتراف بها للمرأة: «الحريّة «مؤنّثة» تقول معاجم اللغة وكتبها / أكثر من نصف العالم لا يعترف بها لامرأة». كما يستغرب أبي ضاهر أيضاً، حين يرانا نشدّ على النساء ليمشين أمامنا، في حين أنّنا حين نتكلّم تتقدّم أصوات الرجال على أصوات النساء، وبهذا الكلام انفصام ذكوريّ على امتداد الشرق: «كذباً تصرّفوا: المرأة تمشي قبل الرّجل / هل سمحوا لها بكلام قبل رأيه؟»

معانٍ وجمالية

في يوميّاته العابرة كان جوزف أبي ضاهر كثيراً بمعانيه وجماليّته قليلاً بمفرداته. وتمكّن من بناء سجن ورقيّ، مفتوح الباب، لثمار شهيّة، وهو القائل: «عندما تنضج الثمرة تؤكل / وعندما تنضج الفكرة تُسجن في كتاب».

back to top