أمْرنة الشعر هستيريا شعرية سحقت الشعر وتاجرت بالذائقة

نشر في 14-07-2007
آخر تحديث 14-07-2007 | 12:34
 محمد مهاوش الظفيري لعل من حسنات أغنية «الأماكن» للفنان محمد عبده، أن جعل الأمر يخرج عن السيطرة، ويصبح موضوع الشعر المُباع

مادة للتناول الفني عبر محطات تلفزيونية حكومية، تابعة لوزارة الإعلام بشكل مباشر، حتى أن ناصر القصبي أشار في بعض اللقطات إلى مدى تفاقم هذه الإشكالية، عندما ادعى على طريقة «إياك أعني واسمعي يا جارة» بأنه كاتب أغنية الأماكن.

في لقاء متلفز للأمير عبد الله الفيصل رحمه الله أشار الى هذه الإشكالية الخطيرة وهي ظاهرة الاستكتاب، وقال إن والده الملك فيصل رحمه الله كان يظن به هذا الظن، وقد اختبره كما يقول، ومن المعروف أن الملك الشهيد كان شاعرًا، حيث أعطاه بيتًا وطالبه بالإتيان بنفس ذلك السياق.

عناصر الشك

سمعت والعهدة على الراوي أن أحد الأمراء صافح شاعرًا وقال له ان قصيدتك الأخيرة التي غناها المطرب الفلاني كانت رائعة، مع العلم أن تلك الأغنية كانت مسجلة ومدونة باسم أحد الأمراء الشباب. إن المعضلة الكبرى التي نعيشها نحن كعرب أننا «كاثوليكيون أكثر من البابا، أو ملكيون أكثر من الملك» وهناك إشكالية قد أقع بها أو قد وقع بها غيري، وهو الشك بنتاج كل شاعر أمير، وفي المقابل يوجد العكس المغاير لهذا التوجه.

عنصر الشك موجود، وهو مبدأ استنه ديكارت في الفلسفة للوصول الى الحقيقة، ومن هذا المنطلق تجدر الإشارة الى شعر امرؤ القيس (الملك الضليل) المرتبط بحياة الصعاليك، الأقل منه مكانة اجتماعية واقتصادية، وهذه سنة من سنن الله في خلقه، وبصرف النظر عن كون الشعر حلمًا من الأحلام يسعى الكثير من المهتمين في هذا المجال الى تحقيق أفضلية السبق فيه، وهذا الأمر من الممكن تعميمه على جميع البشر، الأمير والغفير، فكلهم يشتركون في هذه الخصوصية عندما يكونون شعراء.

ولِمَا لهذا الأمر من حساسية بالنسبة لكل المهتمين بهذا المجال، والجميع يكتب ويقول دون محاولة تلمس رضا (سين أو صاد) من الأمراء، لأن الأمر خرج عن السيطرة وصار حديث المجالس العامة والخاصة أكتب اليوم.

دور الصحافة

حقيقة لست ضد هذه البهرجة المثارة لمصلحة السادة وعلية القوم من كل المسميات، رغم أن هذه الرائحة أزكمت الأنوف وأصابت الرؤوس بالصداع، وجعلت الكثير من المتابعين يشككون بشعر علية القوم من كل الطبقات، رغم ما نكنّ لهم من احترام صادق لشخوصهم الكريمة، لكن لا بد من التسليم، ولو جدلا بهذه الحقيقة العلمية الاجتماعية، فمن يملك الجاه والسلطان والمال قادر على ابتزاز الضمائر والتلاعب بقناعات شعوب بأسرها عن طريق ضخ المال للإعلام.

ولكن آمل أن يخجل البعض منهم، وأن يقدموا لنا نتاجهم الخاص بهم، البعيد عن ظلامية الكواليس، والضحك على الذقون. لقد تداخلت الأمور واختلط الحابل بالنابل، وطغى الغث على السمين، وصار العديد من المتابعين والمهتمين يشكون بكل قادم جديد من هؤلاء القوم، رغم احترامنا لهم وتقديرنا لِما يكتبون.

وهناك نقطة مهمة، وهي دور المحرر الصحافي المتسلق، الذي يهشّ ويبشّ كما يقولون لرؤية صاحب النفوذ والجاه، ناهيكم عن التعديل والمساعدات الكواليسية «وأنا لا أتهم أشخاصًا بعينهم، معاذ الله من هذه التهمة الجائرة دون أدلة دامغة»، فالسيد المبجل المحترم لا يهتم إلا لقراءة اسمه مذيّلا بعد الانتهاء من تلاوة القصيدة أو تلك.

مرصعة بصورة شخصية له، ليصبح بين ليلة وضحاها، الشاعر الذي لا يشق له غبار.

لو فتشنا بين صفحات التاريخ العربي الممتد أكثر من ألف سنة لَمَا رأينا شعراء أمراء بهذا الحجم، فالذاكرة العربية لا تحتفظ إلا بأسماء محددة من الشعراء الأمراء، فهذا التاريخ الممتد عبر كل هذه السنين الطوال لم ينجب لنا إلا القليل، رغم أن حوافز الكتابة الشعرية متوافرة آنذاك.

وعود على بدء، وفي محاولة لفهم ما يجري على الساحة، ولكي لا يساء فهمي بأني مع او ضد شعر الأمراء أو «أمْرنة الشعر». أعتقد جازمًا أن الأمراء الذين يستحقون المتابعة مني على وجه التحديد ويمكن تعميم هذه الظاهرة أو تحييدها هم ثلاثة: خالد الفيصل وبدر بن عبد المحسن وعبد الرحمن بن مساعد، لأن كل واحد من هؤلاء الثلاثة له خطه البياني المختلف. رغم أن هناك العديد من الأمراء الآخرين، لهم نتاجهم المعروف ودورهم البارز، وكلٌّ له جمهوره الذي يدافع عنه، ولكن المسألة مسألة أذواق وآراء وقناعات وميول.

خالد الفيصل

يظل خالد الفيصل أقوى الثلاثة حضورا جماهيريّا وأفضلهم في التعاطي مع الجمهور، لاعتبارات خاصة بشعره كالمباشرة في الطرح والوصول لِما يريد بأيسر الطرق، ولا يعني التفوق الفني الشعري على صاحبيه، فهذه مسألة ليس هذا مجال الحديث عنها، كما أن الرجل له حظه من القبول الشعبي إضافة الى كونه صاحب سمو ملكي، فهو أمير منطقة عسير سابقًا والآن يتقلد إمارة مكة المكرمة، وهذه حقيقة عوامل جذب لدى المتلقي تزيد من أسهم الشاعر الأمير خالد الفيصل، وتقوّي من حضوره جماهيريًا.

بدر عبدالمحسن

أما بدر بن عبد المحسن، في اعتقادي الشخصي أنه أفضل أمير شاعر أو شاعر أمير، لِما يمتاز من شاعرية فريدة وقدرة على الحضور الفني الفاتن شعريّا، القادرة على السموّ بذائقة المتلقي والصعود به إلى أعلى، فبدر ساهم في تطوير الحركة التجديدية في الشعر الشعبي وكان من الرواد في الثمانينيات حاله كحال مسفر الدوسري وفهد عافت وعواض العصيمي والعديد من شباب ذلك الجيل الثمانيني الزاهر.

وعلى هذا المبدأ، فمن الخطأ القاتل تعميم ظاهرة «الأمْرنة» على الشعر واعتبارها كلها سيئة ولا تأتي إلا بسيئ، غير أن فوَحان رائحة الشراء والبيع وسياسة «على عينك يا تاجر» هي ما دفعتني للكلام السابق الذي أومن به تمام الإيمان، ولا بد من الوقوف أمام هذه الهستيريا الشعرية التي سحقت الشعر وتاجرت بالذائقة وتلاعبت بالضمير، وهي مسؤولية العقلاء من أبناء الساحة ورجالها المخلصين، وذوي الضمائر الحية منهم على وجه الخصوص.

عبدالرحمن بن مساعد

عبدالرحمن بن مساعد، أظن أنه أذكى أمير شاعر أو شاعر أمير عربي على الإطلاق. قد يبدو في هذا الكلام شيء من المجازفة أو يعتقد البعض أنه فيه شيء من اللامسؤولية في الطرح وتبني الأفكار والآراء، فعبدالرحمن بن مساعد لم يكن له الحضور الزاخر الذي تمتع به خالد الفيصل، ولا يملك المجال الشعري الذي وهبه الله الخالق لبدر بن عبدالمحسن، وكأنه أدرك هذا المأزق أو أن وعيه الباطني هداه إلى هذه الإشكالية، فسار على الخنجر وتجاوز الصراط، ووصل منطقة أحجم عنها أقرانه الأمراء أو لم تكن لديهم الشجاعة الأدبية على خوض هذا المعترك الحساس ولا أقول الخطير من تناول الحياة اليومية، فقد سبق الجميع حمود البغيلي بخوض هذا الغمار منذ أوائل الثمانينيات وهو مواطن خليجي بسيط، لذا كان عبدالرحمن بن مساعد سبّاقًا في هذا المعترك الشعري الجديد بالنسبة لطبقته الاجتماعية، ولم يكن مثل خالد الفيصل الذي جلس في شرفة ملكية عالية ينشد الشعر على طريقة أسلافه الأمراء، ولم يكن كذلك مثل بدر عبدالمحسن الذي دخل المعترك اللغوي وفجّر القصيدة الشعبية من الداخل. لقد دخل هذا الرجل معترك الحياة العامة وانصهر بصخب الجماهير وترك الشرفات الملكية والمقاعد الوثيرة، وابتعد عن الغوص في الوصول للصورة الشعرية الفاتنة، واهتم باقتناص الفكرة والتعامل معها بشكل عفوي ومباشر، حيث تجوّل بين الشوارع والأرصفة ليحقق لنفسه مكسبا شعريّا ومكانة اجتماعية شعبية، غابت عن أقرانه وأترابه من الشعراء الأمراء.

back to top