الجهراء تكتب حفر الباطن
كثرت الأحاديث هذه الأيام حول ما يعرف بمدرسة حفر الباطن الشعرية، لاسيما مع برنامج شاعر المليون في نسخته الثالثة، إذ إن أول من أطلق هذه الرصاصة الفكرية في الساحة الشعبية هو الأستاذ تركي المريخي، ثم تبعه الأستاذ حمد السعيد في ما بعد، حتى صار يتداول هذا المسمى الجديد بين الأفواه والألسنة وعبر القنوات الإعلامية المتنوعة الأخرى.بعيداً عن هذا الصخب الإعلامي المتصاعد حول هذه التسمية، الأمر الذي أحدث هناك مقارنات بين المدارس -إذا أجيز لنا استخدام مثل هذه المسميات، رغم فضفاضيتها الواضحة- حيث صارت تُقارن هذه المدرسة بمدرسة الحجاز الشعرية ومدرسة عمان الشعرية، ولأنني ضد أي صخب إعلامي، وأميل إلى التنظير الفلسفي المتأني للأمور، لهذا سأبدأ الحديث في هذا الموضوع بشيء من التروي والدقة.لقد نبعت بذرة الإبداع من الجهراء، ولكنها أينعت في حفر الباطن، فهناك خصوصية تربط شعراء حفر الباطن بشعراء الجهراء، وآن الأوان أن يعود الحق إلى أصحابه الشرعيين، وهم شعراء الجهراء الذين بدأوا هذا المشوار منذ الثمانينيات، فمن الإجحاف والظلم أن يلتقف شعراء حفر الباطن هذه الثمرة، دون التنبيه لهذا المسار.بعيداً عن مسألة الحدود السياسية أو التقاسيم الجغرافية، فهناك خصوصية تربط هذا الشعر بذلك الشعر، وهي نوعية الموقف من الأرض، وأبعاد الموقف العاطفي الانفعالي المرتبط بالمكان، فأغلبية سكان المنطقتين ينتمون إلى قبائل الشمال الثلاثة المعروفة، وهم شمر والظفير وعنزة، فلهذه القبائل الثلاث امتدادات جغرافية وعلاقات تاريخية نفسية بالجانب الشمالي من الوطن العربي، وهو العراق وبلاد الشام، وتقارب مناطق الانتشار الجغرافي في ما بينها، الأمر الذي وحد الرؤية لدى شعراء هذه القبائل، خاصة من الطبقة المثقفة.فهذه الطبقة المثقفة من الشعراء بالتحديد، اتحدت لديها الرؤية، وتبلور معها الموقف النفسي والوجداني مع الأرض، دون اتفاق مسبق في ما بين مكوناتها الداخلية، وقد ضاعف هذا التوجه تداعيات التقسيم الجغرافي السياسي، الذي قطع منازلهم بين دول المنطقة. فهذا الإجراء السياسي وما واكبه من تبعيات واقعية، خلق هذا التناغم النفسي لهم مع الأرض، وهذا الشعور واضح بشكل كبير لدى شعراء الجهراء الذين كانوا يندبون الوطن، بينما شعراء حفر الباطن كانوا يتباكون على الهوية، وكان هذا الموقف نابعا من تزايد إشكالية البدون في الجهراء، وما يعرف بحفر الباطن بأزمة البطاقات ومعضلة القبائل النازحة من الدول المجاورة، وهذه الإشكالية أقل حدة من إشكالية البدون الموجودة في الجهراء، غير أن في حفر الباطن كانت توجد إشكالية أخرى، وهي مشكلة الركض وراء لقمة العيش، وهذا الذي انعكس على نفسية شعراء حفر الباطن.ونستطيع القول، إن شعراء الجهراء هم البذرة الأولى التي استقى منها شعراء حفر الباطن، واستفادوا من هذا النبع الشعري، وخاصة جيل الرواد في هذا التوجه الشعري الجديد كفهد عافت وسليمان المانع وصالح الظفيري وفهد دوحان وبدر الحمد، ومن تأثر بهم من الشعراء كبدر صفوق وعبدالله الفلاح وفالح الدهمان وحابس المشعل وفرج صباح وفلاح الفاضل وسعد معيوف، وغيرهم وغيرهم من الأسماء الشعرية التي لا تحضرني في هذا الوقت. وقد انتقل عدد من هؤلاء الشعراء إلى المملكة العربية السعودية، ومنهم من أقام بحفر الباطن كحابس المشعل وسعد معيوف، ومنهم من مر بحفر الباطن وتأثر بها سلباً أو إيجاباً كفالح الدهمان، وسليمان المانع.هذا التراكم الشعري والنفسي كان له بالغ الأثر على شعراء حفر الباطن الذين نبغوا فيها، وأشعلوا لياليها وأماسيها في قصائدهم كعايض الظفيري وسعد زين الخلاوي ونواف التركي، ومنهم من كان تأثره بجيل الرواد تأثراً قليلاً كنواف المزيريب وحمد عايد الشمري.هذا التوحد مع الألم جعل العديد من الشعراء يعيشون حالات من الضياع، فتسلل هذا الألم إلى مخزون الوعي الداخلي فيهم، لهذا كانت أزمة الهوية والبحث عن لقمة العيش هي التي دفعت الشعراء إلى ركوب هذا النوع من الشعر، وخلقت هذا التوحد والاتحاد بين شعراء هاتين المنطقتين. لأن الشاعر لا يقرأ التاريخ ولا ينظر إلى الواقع مثل الناس الآخرين، بل يقرأه بوجدانه ويراه من خلال وعيه، فنجد أن لديه إشكالية مع التاريخ وأزمة مع الواقع وعدم تصالح دائم مع الذات، وهذه الجوانب لا يلمحها إلا من يجيد تدقيق النصوص، والغوص العميق في خباياها الداخلية، فنص مثل «رحلة التكوين» للشاعر سعد معيوف مليء بالإسقاطات السياسية.إن هذا الشعور باللاانتماء داخل هذا المحيط، هو الذي أحدث هذه الخلخلة النفسية في منطقة اللاوعي الشعورية، والتي تظهر وتختفي في النصوص حسب حالة الانفعال، ووفق لحظة الاستفزاز العاطفي بالنسبة. وهذا ما جعل سليمان المانع -إن لم تخني ذاكرتي- يصرخ بأعلى صوته:لا أرض لا تــــاريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخ لا دار لا ويـــــــــــــــــــــــــــنأبي هوية موطني علمونيوهذا ما جعل فهد عافت يردد هذا البيت، بعد أن خرج بخفي حنين بل حتى خفي حنين لم تكن معه في تلك اللحظة، لأنه كان يمر بظروف نفسية حادة دفعته إلى إعلان هذا الموقف الاستسلامي الذليل، الراضخ لتداعيات تلك المرحلة:وأقول مسامحك ياللي رفض يدخل معي بالغاروأقول مسامحك يا عنكبوتٍ عدّ خطواتيوقد تبنى هذا الموقف الانعزالي مع الذات، قبل أن يكون موقفاً استفزازياً نابعاً من علاقته مع المجتمع: ما يشرفني أكون من العربأحمد الله يوم خلاني بدونلكن الشاعر سعد زين الخلاوي كان أعمق من هذين الشاعرين في تفاعله مع الألم، ولم تكن مواقفه خطابية، إذ كانت الشعرية مرتفعة لديه، وأجاد التعامل بمهارة فذة مع فكرة سليمان المانع «وفرحة ربوعي في خبر تابعية» فرأينا آلامه عبر جذورها النفسية المرتبطة بالإنسان والأرض، وكذلك شاهدناها من خلال فروعها التي عانقت السماء، وهي ممزوجة بعرق الإنسان اليومي وتماسه مع الحياة في بحثه اليومي المرير عن لقمة العيش:تبدا صباح الصنادق صيحة الديكويداعب النور خصلات البنيهويحين تشتيت الأحرار المماليكاللي تعيش الكدر واللاهويةوحش الكآبة يطل من الشبابيكويكفن الجوع آمال البريهأفواج تتدافع بلهفة مهاليكوالمحسن الفض يختال برويهوبوجيههم بصمة الأقدار تبنيكعن فعلة الفقر بالنفس الأبيةوالمقبرة حارة الغياب هاذيكيا كثر ما ضمت وجيهٍ رضيهكم كان جان جاك روسو على صواب عندما قال:«إننا بحاجة إلى كثير من الفلسفة لكي نستطيع أن نلاحظ ما نراه كل يوم»، وهذا الرأي يعود إلى الجانب الفلسفي التنظيري، فما بالنا إذا كان هذا الرأي متوافقاً مع الواقع، ونابع من حيثياته التي تداخلت وتشابكت لتشكل في نهاية المطاف ماهية الواقع الشعري في هاتين المنطقتين.