السرقات الشعرية حق مشروع للشعراء
لو تتبعنا نصوص المتنبي الذي «ملأ الدنيا وشغل الناس» كما قال عنه الثعالبي، لوجدنا أنه سارق كبير- وفق أصحاب هذه النظرة الفكرية الضيقة- وقد ألف النقاد حول سرقاته الكتب والمصنفات، التي ذهبت أدراج الرياح، وظلت قصائد المتنبي تتداولها الأيدي وتستقر في صدور الرجال، ولا يعرف إلا المتخصصون تلك الكتب. يتداول عدد من الناس موضوع السرقات الأدبية، التي يعدها البعض منهم من عيوب الشعراء، في الوقت الذي أرى فيه أن هذا الأمر لا يضر في شيء، ما دام المرء قادر على الإفادة والاستفادة، إذ تكون الاستفادة من تجارب من سبقونا من الشعراء والكتاب والمؤلفين، والإفادة لمن يأتون بعدنا من الأجيال. وفي هذا السياق يقول الرافعي: «وما أنا إلا رجل يقرأ ليكتب، ويكتب ليقرأ الناس وهذا السلوك الكتابي كنت ومازلت أمارسه، قبل أن أطلع على هذه المقولة العظيمة من هذا الرجل العظيم، لأن الكتابة توليد وتوالد، فالتوالد لا يكون إلا من خلال استمرار عملية القراءة، والتوليد هو نتاج لهذا العمل الثقافي المتواصل مع إبداع الآخرين ونتاجاتهم الفكرية». وذلك أن الشعر حديقة عامة ومتنزه كبير، تجارب الشعراء وقصائدهم فيه مثل الزهور، والشاعر مثل ذلك الرجل الذي يتجول بين هذه الزهور، ولهذا قال الجاحظ: «المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعَجَمي والبدوي والقروي»، وقيل في مواقع أخرى «وقد يقع الحافر على الحافر»، ولو تتبعنا نصوص المتنبي الذي «ملأ الدنيا وشغل الناس» كما قال عنه الثعالبي، لوجدنا أنه سارق كبير- وفق أصحاب هذه النظرة الفكرية الضيقة- وقد ألف النقاد حول سرقاته الكتب والمصنفات، لكنها ذهبت تلك المؤلفات أدراج الرياح، وظلت قصائد المتنبي تتداولها الأيدي وتستقر في صدور الرجال، ولا يعرف إلا المختصون تلك الكتب، ومن أوائل من أهملوا موضوع السرقات الشعرية الناقد العباسي قدامة بن جعفر، لأنه كان يرى أن السبق إلى المعنى لا يعد تميزًا في الشعر، بل يحسب للشاعر كشخص لا للعملية الشعرية من حيث كونها حالة مجردة منفصلة عن الشاعر، وأن المعنى المسبوق عليه إذا كان جميلاً،
خير من المعنى المبتكر إذا كان قبيحا.ولو نظرنا إلى الأوزان الشعرية والقوافي، لوجدنا أننا مسبوقون عليها، كما أن عدد حروف اللغة العربية ثابت ولم يتغير، ولم يتم ابتكار أي حرف جديد، لهذا فنحن نأتي بشيء مكرر بشكل عام ويبقى التميز يوافق عدد من الشعراء، والشاعر المحظوظ من علقت له قصيدة أو بيت من الشعر في أذهان الناس، أو تداوله المؤلفون في كتاباتهم.وعلى هذا، فلابد لنا من التفريق هنا بين السرقة الشعرية والسطو الأدبي أو الشعري.نعم، هناك فرق بين السرقة الشعرية والسطو، والفرق كبير وواضح، السطو: هو أن يدعي شاعر أحقيته بقصيدة شاعر آخر، أو يأخذ منه بيتا شعريا، دون أن يُلفت أنظار القراء والمتابعين إليه بعلامتي تنصيص أو ذكر بالهامش.أما السرقة فهذا أمر مجاز به في مجال الشعر، كسرقة معنى أو فكرة، ويبقى التميز لمن تفوق في هذا المجال.يقول الشاعر الجاهليوالنقع يوم طراد الخيل يشهد ليوالسيف والرمح والأقلام والكتبويقول المتنبيالليل والخيل والبيداء تعرفنيوالسيف والرمح والقرطاس والقلمويقول أبو العتاهيةما كل ما يتمنى المرء يدركهرب امرئٍ حتفه فيما تمناهُويقول المتنبيما كل ما يتمنى المرء يدركهتجري الرياح بما لا تشتهي السفنُويقول الأعشىوكأسٍ شربتُ على لذةٍوأخرى تداويتُ منها بهاويقول أبو نواسدع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ وداوني بالتي كانت هي الداءُأما في مجال الشعر الشعبي، فيقول تركي ابن حميدوالحـر لا دبـت عليـه اللواليـسيشهر وعـن دار المذلـة يشومـيويقول مطلق الجرباوالحر لا صكت عليه المغاليبيشهر وعن دار المذلة ينزّيويقول الحميدي الثقفي:مهو لازم اقطع دابر الشك بالتصديقولا هو ضروري تعكس أشعاري أخلاقيويقول نايف صقرما نيب من عاش لا يربح ولا يخسرولا هو ضروري تكون أفعالي أخلاقيويقول شاعر أجنبي، وأعتقد أنه شاعر ايطالي:«قالت نيكولفالتفت الناس جميعًاكأنهم نيكول»وهذا المعنى يتطابق مع بيت مشهور لفهد عافتنادت مشاري، قالت الناس لبيّهمن زينها، كل الخلايق مشاريمن خلال هذا العرض البسيط، نرى أنه من حق الشاعر الاستفادة من تجارب من سبقوه، أو ممن عاصروه، خاصة ممن يرى ويعتقد أنه من الضروري له الاستفادة منهم، وأن بإمكانه الإضافة والتميز فيما بعد، وقد يوافقه الصواب أو لا يوافقه.