رأي في الساحة الشعبية
النص الشعري، في جميع سياقاته، هو الذي يشكل عبئا على المتلقي لا عالما مخمليا يستريح بين حدائقه الغناء في معزل عن الإنسان بكل تحدياته أو الواقع المعيش بكل صراعاته، أي أنه بعبارة أخرى، ذلك النص المليء بالجراح التي تتفجر أمام القارئ لخلق حالة من التوازن الروحي والانسجام النفسي بينه وبين الواقع المعيش. الساحة الشعبية بيت كبير لكنه مليء بالدبابير، وهذه الدبابير لها أكثر من فصيلة، منها الدبابير القبائلية والدبابير الفكرية والدبابير الارتزاقية البارغماتية، ولا عجب أن تكون هذه الأجواء هي الأجواء السائدة، فكيف تنشأ حركة نقدية ذات طابع فكري أصيل في مثل هذه الظروف؟!لقد بدأت الحركة الشعبية في الخليج والجزيرة العربية منذ بواكير الستينيات الميلادية، أي مع بزوغ عالم الصحافة في المنطقة، إلا أن هذا الحراك الثقافي المبكر -إذا أجيز لنا ولو جدلاً استخدام مثل هذه التعابير الفضفاضة- لم تواكبه حركة نقدية تضبط هذا المسار وتقيه من الزلل، غير أن تراكم الخبرات دفع بعض المهتمين بالساحة الى ضرورة النهوض بهذه المسؤولية رغم مشقة الطريق في هذا الجانب، وصعوبة هذا المسلك، فتكونت بوادر لحركة نقدية نأمل أن تتضح ملامحها مع تقدم هذه التجربة، في محاولة الابتعاد عن الكتابات الانطباعية التي يغلب عليها المزاجية والاستعراض اللغوي. فالمتأمل في هذا الجو الضبابي يلحظ أن هناك توجها جادا من قبل بعض المهتمين بدفع هذا التوجه للبروز، لتصدر واجهة المشهد الثقافي وتوجيه الحركة الشعرية التوجيه الأنسب الذي يرقى بالذائقة، ولا يخلق فجوة بين المثقف والمتلقي البسيط.النص الشعري الجيد، هو ذلك النص الذي لا يقف عند نقطة محورية معينة، بل هو النص المفتوح دلاليّاً على الفضاء الشعري الرحب، والتعامل مع النص الشعري كعالم آخر له أدواته الخاصة، المتكئ على إمكانية إثارة عدد من التساؤلات التأملية الشعرية، التي تجعل من الإمكان استنطاق النص الشعري وبث الروح الشعرية فيه مهما كان عمره الزمني الماضوي، هذا بشكل عام، لأن هذه الكلام لا يقيده سياقات معينة بل منفتح على المشهد الشعري من حيث كونه مشهدا شعريّا بالدرجة الأولى.النص الشعري، في جميع سياقاته، هو الذي يشكل عبئا على المتلقي لا عالما مخمليا يستريح بين حدائقه الغناء في معزل عن الإنسان بكل تحدياته أو الواقع المعيش بكل صراعاته، أي أنه بعبارة أخرى، ذلك النص المليء بالجراح التي تتفجر أمام القارئ لخلق حالة من التوازن الروحي والانسجام النفسي بينه وبين الواقع المعيش بشكل عام، وبينه وبين النص كواقع منعزل يخدم السياق العام للحياة بشكل أكثر تخصيصا، سواء كان النص نصّاً ذاتيّاً أو وجدانيّاً أو نصّاً تأمليّاً وجوديّاً، أو أي نص آخر من النصوص الأدبية التي يقدمها الشعراء في سياقاتهم الخاصة. القراءة الأدبية للنص، هي بمنزلة عمل تكاملي للنص الشعري، يقوم من خلاله القارئ المتمكن بملء الفراغ الموجود في النص، وإعادة بناء هيكله الداخلي بطريقة تفحصية.إن الخطأ الذي يقوم به بعض المهتمين، سؤال الشاعر: «ماذا تقصد؟» أو«ما معنى هذه الكلمة؟» أو إمكانية البحث عن مقصد الشاعر ومراده في هذا النص، مع العلم أن هذا الوضع ليس من مهمات الناقد المتبصر بقراءة النصوص الأدبية، إلا لدى أصحاب الفهم التسطيحي للنصوص، بل واجب الناقد المتبصر بالنصوص الأدبية، كشف العلاقات الدلالية بالنص الشعري بمعزل عن فهم الشاعر أو أطروحاته الخاصة، والتعامل مع النص الأدبي بمعزل عن صاحبه، ورحم الله الناقد العباسي الذي فصل بين الشعر والشاعر قبل بارت بألف سنة «وأحسب أنه اختلط على كثير من الناس وصف الشعر بوصف الشاعر فلم يكادوا يفرقون بينهما» (قدامة بن جعفر- نقد الشعر، ص 83)، لهذا يجب على الناقد بث الروح الحيوية بالنص دون النظر الى الشاعر وسؤاله عما يقصد، وسد الفراغات بالنص الشعري من خلال التفكير الطويل المتمركز، بعيدا عن أي سياق خارجي لا علاقة له بالنص.إن الناقد المتبصر بالنصوص، هو ذلك الرجل الذي يعتبر النص الأدبي بناء، يجب تفكيكه لإعادة هيكلته بطريقته الخاصة.