الشاعر لا يمثل إلَّا نفسه

نشر في 27-08-2010
آخر تحديث 27-08-2010 | 00:00
 محمد مهاوش الظفيري لم يعُد الشاعر ذلك الإنسان الحكيم العارف بخبايا الأمور وظواهرها، وكذلك لم يعُد الشاعر ذلك الرجل المعلم الذي تنتظر منه الناس ماذا يقول. لقد تراجع دور الشاعر عمّا كان عليه في السابق، تراجع عن ذلك الدور الإعلامي الذي كان يمثِّل القبيلة ويعتبر صوتاً من أصواتها، إذ صار الشعر فناً من الفنون حاله كحال الرسم أو النحت أو الموسيقى أو الرقص، وليس من المعقول أن يأتي شاعر معاصر ويقول بكل غباء وسذاجة إنني أمثِّل قبيلة كما يفعل عدد من الشعراء في بعض المسابقات.

الشاعر لا يمثِّل إلَّا نفسه، وفي مثل هذه المسابقات لا يملك صلاحية تمثيل نفسه لأنه بحاجة إلى التصويت واستجداء أصوات المشاهدين، وفي هذه المسابقات انقلب مسار الشاعر من أنه كان يقود الجموع السطحية إلى إنسان وضع مصيره بأيدي أطفال يملكون بطاقات سوا أو موبايلي أو زين من نظام «الشعبية», وهذا عائد بطبيعة الحال إلى تغير أداة الإرسال الثقافية التي كانت تعتمد على الكتاب أو الصحيفة اليومية أو المجلة الشهرية, وصارت الناس تعتمد على الصورة التلفزيونية بما لديها من قدرة على الحضور والوجود المكثف والتلقائية والسرعة الهائلة في الوصول إلى شريحة اجتماعية لا تقرأ ولا تفكر في الأغلب, إنما آراؤها تكون وفق ما يملي عليها من قناعات, وحسب ما يريده أصحاب هذه المحطات.

هذه الحال الجديدة أفرزت وضعا جديدا, وذلك مرده أن ثقافة الصورة تقوم على الاستلاب والإمتاع، إذ إنها تسلب منا الوقت والمال الذي نصرفه في سبيل الحصول على هذه الضرورة العصرية، وعلى هذا الأساس يشعرنا هذا العمل بالإمتاع، إذ نوهم أنفسنا أو نكون مقتنعين أننا صرفنا أموالنا في المكان الصحيح وأنها استطاعت أن تملأ الفراغ الوقتي لنا.

هذا التعامل مع ثنائية الاستلاب والإمتاع دافعه الشعور بالملل والبحث عن توهم السعادة، فالصورة الضوئية الآتية لنا من الشاشة الفضية، جعلت الكثير منا «يتسمّرون» أمام شاشات التلفزة بحثا عن الكنز المفقود في حياتنا، والذي هو في الأساس لا شيء، ونجلس أمام الشاشة ونحن لا ندري لماذا نجلس ثم نقوم عنها ونحن لا نعلم ماذا استفدنا, اللهم إلا بعض الفقاعات الهوائية التي تتلاشى في الهواء قبل أن نغادر باب غرفة المجلس أو ننشغل بأي شيء آخر.

فهذه الثقافة, وهي ثقافة الصورة، عمّقت الصلة بين ثقافة الإرسال والاستقبال, الإرسال المعتمد على البرامج ومحطات التلفزة والاستقبال الذي يشمل كل شرائح المجتمع بكل ما فيه من تنوع, باعتبار أن الصورة لغة بصرية وأداة تحفيز وتحريض، تحفز الذهن على اليقظة والتأمل وتحرض على اتخاذ المواقف المتعددة من مواقف مؤيدة أو مواقف ممانعة معارضة, لهذا هجمة مرتدة في مباراة تذاع على الهواء أو أغنية لمطرب شاب صاعد كفيلة بإحداث ضجة إعلامية ما لم تحدثه قصيدة محكمة البناء الفني، كنص حنظلة لفهد دوحان أو الورق لبدر صفوق أو الأبواب لفهد عافت على سبيل المثال، ذلك أن الأغلبية الساحقة من الناس أصبحت ترى بآذانها وتسمع وتطرب بعيونها.

في الماضي، كان المرسل الإنسان النخبوي والإنسان الرجل المثقف على وجه الخصوص, وكانت النخب المثقفة وممن يندرجون تحت مفهوم الخاصة هم من يقومون بالاستقبال, باعتبار أن الناس الآخرين ما هم إلّا عامة, لهذا كان المثقفون في كل العصور السابقة يصفونهم بالرعاع والسوقة وما شابهها من الألفاظ , أما الآن في هذا العصر، فقد صار المستقبل عامة الناس الذين يعانون أمية حقيقية أو أمية مجازية أي أمية ثقافية, وصار الجميع ينافسون المثقفين وذوي الاختصاص والخبرات في الرؤى وإبداء الملاحظات سواء الملاحظات السلبية أي الملاحظات من طرف واحد وهي التي لا تصل إلى الآخرين, وغالبا ما يتم التعبير عن هذه المواقف إما بالاحتجاج الشخصي أو تغيير القناة بواسطة «الريموت كنترول» والبحث عن محطة فضائية أخرى, أو الملاحظات المعتمدة على التغذية الراجعة من خلال المناقشات أو المشاركة في حلقات بعض البرامج من خلال الاتصال, أو طلب تسجيل العضوية في بعض مواقع الشبكة العنكبوتية.

هذا الوضع الجديد الطارئ جعل البرامج التلفزيونية لاسيما البرامج الجماهيرية الكبرى، تتحول من كونها ثقافة صورية ضوئية مرئية يشاهدها الملايين إلى مادة صحافية كتابية تتداولها الأقلام في الصحف والمجلات, وصار الذي يرفض أمثال هذه البرامج أو الرافض لدور المواقع في الشبكة العنكبوتية، إنما يندب حظه العاثر الذي تجاوزه الناس والزمن فيه, ولا يريد من هذه المعارضة إلا ترسيخ حقيقة زائفة لا يراها إلا هو, وهي ادعاؤه أنه يمثِّل رأي الناس بالقدر الذي يسعى إلى تسليط الضوء على نفسه التي ذهبت عنها الأضواء, فلا احد يمتلك حق تمثيل رأي الناس في زمن الفضائيات، فالجميع يشاهدون ويرصدون الأحداث ومن لا يستطيع الكتابة في الصحف لديه الانترنت، ومن لا يعرف هذه التقنية بإمكانه الاتصال بأي محطة فضائية لإبداء رأيه أو عرض ملاحظاته, ولا يوجد أحد بعد كل هذا خارج هذه الدائرة.

وبسبب زمن الصورة والقنوات الفضائية، قلت حدة الانفصال بين التقليدي والمجدد على حد سواء في الشعر, فالأول حاول تطوير لغته الشعرية وتهذيبها قدر الإمكان، وكذلك الثاني تراجع عن الكثير من قناعاته وأدواته الكتابية كشعر التفعيلة من حيث كونها نمطا شكليّا حديثا، من اجل الوصول إلى أكبر عدد من المشاهدين، لان كلا الطرفين أدرك أن المتلقي يريد منه التسهيل والبساطة, وعلى هذا الأساس تراجعت كثير من المفاهيم الشعرية والاجتماعية, وصرنا أمام واقع جديد لا يمكن التنبؤ بما سيكون عليه في المستقبل.

back to top