الشاعر الاماراتي الراحل احمد بن علي الكندي بين الخيال والعاطفة
عرف قدامة بن جعفر الشعر بأنه الكلام الموزون المقفى الدال على معنى، ويعتبر هذا التعريف للشعر تعريفاً ناقصاً، لأنه شوّه الشعر وسلب منه أهم خصائصه التي لا بد من توافرها في العمل الشعري، وهي العاطفة والخيال والتصوير، ولا يمكن اعتبار هذا العمل عملا شعريّا ما لم تكن متوافرة به هذه الخصائص، وهذا التعريف المشهور عن قدامة ساوى بين الشعر والنظم، وأذاب الفوارق بين الفن والعلم، وهما في الأصل متناقضان، غير أن النقاد العرب القدماء لم يقفوا عند تعريف قدامة للشعر موقف المتفرج، حيث اعتبر الجاحظ الشعر ضربا من التصوير، ويرى حازم القرطاجي بأن الشعر وسيلة للتخيل، ومن هذه النقطة فإن الشعر تصوير لخلجات النفس والوجدان، وما تختزله الذاكرة من معرفة وتجارب إنسانية، وليس الاقتصار المحدود على الكلام الموزون المقفى. أما في أوروبا، فقد قلل الكلاسيكيون من دور الخيال، واعتبروا أن العقل جوهر الشعر، لكن حينما اهتم النقاد بأهمية العاطفة ودورها في العمل الشعري، وذلك مع أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر انتبهوا لأثر الخيال البالغ في الشعر والأدب، وذلك أن النظرة التقليدية للخيال نظرة محدودة، لا تؤمن بالخيارات الفردية أو الرغبة في خلق آفاق رحبة وعوالم جديدة، حيث إن نظرتهم للخيال نظرة نمطية ثابتة وخاضعة للتجارب الاجتماعية لا الشخصية، وإنهم يريدون سماع أو قراءة ما يرضى عنه الناس ويقبله المجتمع، وفي هذا التصور قتل للروح الفردية لدى الأديب أو الشاعر، وحبسه عن التحليق في سماء الشعر والفن والأدب.قبل الدخول لثنائية الخيال والعاطفة، أظن أنه من الضرورة بمكان التفريق بين الخيال والوهم، فالفرق بين الوهم والخيال، هو أن الوهم هو هروب عن الواقع، وهو نقيض الخيال، ويعتبر حالة أشبه ما تكون بالحالة النفسية ناتجة عن تحرر صاحبها من قيود الزمان والمكان، بينما الخيال محاولة لإدراك الواقع بطريقة لا حسية، والخيال من أهم مكونات الشعر، وكما قال حازم القرطاجي، حينما فرق بين الخطابة والشعر، من أن الخطابة وسيلة للإقناع بينما الشعر وسيلة للتخيل، وهو حالة تظهر للتوفيق بين الأشياء المتنافرة أو المتناقضة من أجل ايجاد نوع من التوافق في ما بين هذه الأشياء. أما العاطفة فهي إحساس متأصل فى كيان كل فرد، وتكلمت عنها كافة الثقافات. لأنها غريزة إنسانية لذا توصف بأنها إحدى السمات البشرية التي تجعل من الفرد إنسانًا. وكثير من الناس يخلطون بين الحب والعاطفة، ويدمجون بين التعريفين، والعاطفة أشمل بينما الحب فيه تخصيص كحب الذات أو حب المال أو حب العمل، أما ما يخص الجنسين الرجل والمرأة، فلن يكون هناك حب ما لم يسبقه إعجاب، والعاطفة غريزة لا يمكن التحكم فيها، بينما الحب هو تصرف ناتج عن استجابة لمؤثر، وعمد على الممارسة.من خلال هذا العرض نخلص بأن الخيال يقوم على «توليد صور واضحة» كما يذهب عدد من النقاد، وهو انطلاقا من هذا الفهم يعمل على التقاط المشاعر والأفكار وإعادة خلقها من جديد في عمل أدبي، وعلى هذا الأساس فإن الشاعر المتمكن لا يكتب كل ما تمليه عليه غريزته، ويكون أسيرا لانفعالاته، وإنما هو ذلك الشاعر الذي يترك خياله يتمدد من أجل التقاط الصور الشعرية التي تعبر عن مشاعره، ولهذا فإن الاعتماد على الكتابة الشعرية دون الاهتمام بعنصر الخيال في مسألة الخلق الإبداعي أشبه بحالة الرقص دون قدمين. ومن خلال ما سبق نتوصل بأن الكلاسيكيين جعلوا العقل إمامهم في التجربة الفردية، بينما اعتبر الرومانطيقيون الخيال هاديهم في هذا السبيل، حيث إنهم آمنوا بالعاطفة وأعلوا من جانب التجربة الذاتية، الأمر الذي جعلهم يقدمون الخيال على العقل، معتبرين أن الخيال داعم رئيس للعاطفة في هذا الجانب، وليس في النقد العربي القديم مصطلح نقدي اسمه العاطفة، وكان العرب يستعيضون عنه بمصطلح نقدي خاص بهم، وهو الطبع، والعاطفة إحساس إنساني في النفس البشرية تحركه ثنائية الحب والكراهية، ولا تكون العاطفة مؤثرة وفاعلة ما لم تكن متحررة من القيود، ومحلقة في فضاء واسع « تتلاشى فيها حدود الممكن والمحال» كما يقول الدكتور أحمد كمال زكي، غير أن الخيال هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلاله ابراز دور العاطفة في العمل الشعري، ويعتبر الخيال والعاطفة بالإضافة للغة هما مكونات الصورة الشعرية التي تعتمد على هذه المكونات الأساسية.يقول أحمد بن علي الكندي- رحمه الله:لقيـت الـدار مــن بـعـد الحبـايـبخـلـيـه بـاكـيـة وبـهــا عـجـايـبوقفـت ابهـا وأنـا حيـران ساعـة ودمع العين مـن موقـي صبايـبالا يـــــــا دار بالله خـبــريــنــيعن المحبوب قولي ويـن غايـبتقـول الــدار عقـبـك غـادرونـيوخـلـونــي لـعــيــات الـهـبـايــبوسافـر مـن تــود وحــال دونــهبحر وبرور وأخطار ومصايبففي هذه المقطوعة الشعرية للشاعر أحمد الكندي تمازجت عدة عوامل لتخرج لنا هذه الأبيات بهذه الطريقة، حيث كانت اللغة الشعرية لدى الشاعر هي التي مزجت الخيال بالعاطفة، وذلك من خلال قيام الشاعر بأنسنة الدار وتحريك صمتها الأزلي المعروف، حيث إنه جعل الدار تسمع ما يقال، وتصغي لحديث الشاعر، ومن ثم قيامها بالرد عليه بعد ذلك، وهذا مرده إلى عاطفة الشاعر التي هي في مخزون الخيال لديه، ومن ثم قيامه بتفجيرها بهذه الطريقة، الأمر الذي أدى إلى تحريك مخيلة الشاعر في بناء هذا الحوار الثنائي بين الإنسان، وهو الشاعر، وبين الجماد التي يمثله في هذه الحوارية المتبادلة، وهي دار الأحبة، لكن هذا التزاوج بين الخيال والعاطفة لم يستنطق الدار فقط، بل جعلها عاشقة هي الأخرى كذلك، تبكي وتحنّ وتأسى على فراق الأحبة الذين غادروها وتركوها تكابد مرارة الطبيعة «وخلوني لعيّات الهبايب» وتقلبات الزمان وتبدل الأحوال، لهذا كان تميز هذا النص وجماله الشعري لا يعود لأنه استنطق الدار، وهي فكرة جميلة أن تبث الروح فيما لا روح فيه، لكن كما يقول جون ستيوارت مل: «إن الشاعر لا يسمى شاعرا لأن له أفكاراً خاصة، بل لأن تتابع أفكاره خاضع لاتجاه مشاعره».