دماغ مَن يعانون الوحدة يعمل بطريقة مختلفة

نشر في 31-08-2015
آخر تحديث 31-08-2015 | 00:01
No Image Caption
أحد أوجه الوحدة المحزنة أنها تؤدي إلى ما يدعوه علماء النفس {دوامة سلبية}. نتيجة لذلك، يخشى مَن يعانون الوحدة التجارب الاجتماعية السيئة، ويفقدون الأمل في احتمال أن يستمتعوا برفقة جميلة، ما يؤدي بالتالي، كما تذكر مليسا داهل، إلى مزيد من الوحدة. قد لا يبدو هذا منطقياً، إلا أن الخبراء يقولون إن هذا يعود إلى أننا تطورنا لنلجأ إلى نمط الحفاظ على الذات كلما شعرنا بالوحدة. فمن دون دعم الأصدقاء والعائلة، يتنبه دماغنا للخطر، خصوصاً الخطر المحتمل الذي يشكله الغرباء.

يعود الجزء الأكبر من الأدلة التي تدعم هذه النظرية حتى اليوم إلى دراسات سلوكية. على سبيل المثال، عندما تشاهد مجموعة من الناس {فيديو} يصور مشاهد اجتماعية، يمضي مَن يشعرون بالوحدة وقتاً أطول، مقارنة بالآخرين، في البحث عن إشارات إلى المخاطر الاجتماعية ، شخص يتجاهله أصدقاؤه أو يدير ظهره لشخص آخر. كذلك يُظهر بعض الأعمال غير المنشورة أن انتباه مَن يعانون الوحدة يركز بسرعة أكبر، على ما يبدو، على كلمات ترتبط بالمخاطر الاجتماعية، مثل {الرفض} أو {غير مرغوب فيه}.

وحّد جون وستيفاني كاكيوبو، زوجان وباحثان من جامعة شيكاغو يُعتبران من أبرز الشخصيات في علم النفس وعلم الوحدة العصبي، الجهود مع وزميلهم ستيفن بالوغ، بغية تقديم الأدلة الأولى على أن أدمغة مَن يعانون الوحدة تظل، مقارنة بمن لا يعانون هذه الحالة، في حالة تنبيه دائم للمخاطر الاجتماعية وغير الاجتماعية. تدعم هذه الاكتشافات، التي نُشرت في المجلة الإلكترونية Cortex، نظريتهم الأشمل عن أن الوحدة، ولأسباب تطورية، تؤدي إلى سلسلة من التغييرات المرتبطة بالدماغ تجعلنا ندخل نمطاً اجتماعياً من التوتر واليقظة.

الاختبار النفسي {ستروب}

استخدم الباحثون استبانة عن الوحدة لاختيار 38 شخصاً تنتابهم وحدة قاتلة و32 آخرين لا يشعرون بالوحدة مطلقاً (لا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن الوحدة تُعرف هنا بأنها شعور شخصي بالعزلة، مقارنة بمجموعة الأصدقاء والأقارب المحيطين بالإنسان). عمد الباحثون بعد ذلك إلى وضع نظام من الإلكترودات يضم 128 جهاز استشعار على رأس كل من المشاركين، ما سمح لهم بتسجيل موجات دماغهم بالاستعانة بتقنية مدروسة تُدعى تخطيط كهرباء الدماغ وتتناسب تماماً مع قياس التبدلات في نشاط الدماغ خلال فترات قصيرة من الزمن.

بعد وضع هذه الأجهزة في مكانها، طُلب من المشاركين تأمل عدد من الكلمات على شاشة كمبيوتر وتحديد بواسطة أزرار في لوحة المفاتيح، بأقصى سرعة ممكنة، اللون الذي كُتبت به. تُعتبر هذه نُسخة معدلة عن الاختبار النفسي {ستروب}، الذي يقوم على فكرة أن أي تأثير لمعنى الكلمة على المشارك يُعتبر تلقائياً ولاواعياً، بما أنه يُطلب من المشاركين التركيز على اللون لا على الكلمة بحد ذاتها.

كان بعض الكلمات اجتماعياً وإيجابياً بطبيعته (مثل الانتماء وحفلة)، وبعضها الآخر اجتماعياً وسلبياً (مثل الوحدة والعزلة)، في حين اعتُبرت كلمات أخرى إيجابية عاطفياً إنما غير اجتماعية (مثل الفرح). أضف إلى ذلك الكلمات غير الاجتماعية السلبية عاطفياً (مثل الحزن).

صبَّ الباحثون  اهتمامهم على تحديد متى وكيف يتفاعل دماغ المشاركين مع رؤية الكلمات السلبية التي تُعتبر اجتماعية بطبيعتها، مقارنة بتلك غير الاجتماعية. ولتحقيق هذا الهدف، حللوا موجات دماغ المشاركين بغية معرفة متى تدخل أدمغتهم، بعد النظر إلى أنواع الكلمات المختلفة، في {حالات صغرية} خفية، وتشكل هذه فترات من الاستقرار النسبي تظهر حين ينشط نمط مستدام في مناطق الدماغ. عندما يدخل الدماغ في حالة صغرية جديدة، يشكل هذا إشارة إلى أنه أطلق عملية فكرية جديدة، وأنه يعالج محفزاً جديداً بطريقة مختلفة.

اكتشاف مهم

خلال الأجزاء الـ280 من الألف من الثانية (أي نخو ربع ثانية) بعد ظهور الكلمة على الشاشة، تدخل عقول مَن يعانون الوحدة في سلسلة من ثلاث حالات صغرية خفية لم تتبدل سواء كانت الكلمة السلبية اجتماعية أو لا. ولكن بعد هذه المرحلة، دخلت أدمغتهم في حالة صغرية مميزة تفاعلاً مع الكلمات السلبية اجتماعياً (مع ملاحظة نشاط كبير في المناطق العصبية المرتبطة بالتحكم في الانتباه)، ما يشير إلى أنهم انتقلوا إلى نمط من اليقظة العالية. في المقابل، ظلت أدمغة مَن لا يعانون التوحد تتفاعل، محافظة على الحالات الصغرية ذاتها، سواء كانت الكلمات السلبية اجتماعية أو لا طوال الـ480 جزءاً من الألف من الثانية (نحو نصف ثانية). قد يبدو هذا الاختلاف بين أدمغة مَن يعانون الوحدة ومَن لا يشعرون بها بسيطاً، إلا أنه يظل اكتشافاً مهماً لأنه يُظهر أن أدمغة مَن يعانون الوحدة تميل من حيث الأساس إلى التفاعل مع المخاطر الاجتماعية بسرعة أكثر مما يُعتبر {طبيعياً}.

بما أن هذه التأثيرات تحدث باكراً في تفاعل المشاركين الذين يعانون الوحدة مع الكلمات الاجتماعية السلبية، بما أن كل هذا جرى ضمن إطار اختبار «ستروب» (حيث يكون التركيز على لون الكلمة لا معناها)، يقول الباحثون إن هذا يظهر أن تنبه مَن يعانون الوحدة للمخاطر الاجتماعية يشكل تحيزاً مبطناً غير واعٍ. بكلمات أخرى، لا يعي مَن يعاني التوحد هذا الواقع. ما كان يُفترض بالمشاركين التنبه لمعاني الكلمات، إلا أن مَن يعانون التوحد ركزوا بسرعة أكبر، مقارنة بالآخرين، على الاختلاف بين الكلمات التي تعكس خطراً اجتماعياً، مثل عدائية، والكلمات السلبية غير الاجتماعية، مثل التقيؤ.

في العالم الواقعي، يشكل هذا اكتشافاً مقلقاً. فعندما يشعر الناس بالوحدة، تُظهر هذه النتائج أن أدمغتهم لا تركز على الابتسامات والضحكات، بل على العبوس والتجهم. نتيجة لذلك، يبحثون بتيقظ عن السلبية من دون أن يدركوا ذلك. لربما ساعد هذا أسلافنا في الماضي في الحفاظ على حياتهم، حين كان غياب الروابط الاجتماعية يشكل خطراً مباشراً أكبر يهدد خير الإنسان، مقارنة بما هو قائم اليوم. نتيجة لذلك، شكلت ردة الفعل هذه محاولة تكيّف ملائمة. ولكن في عالمنا المعاصر، تمثل هذه حالة مجهدة متعبة. وقد تساهم حتى في تعليل لمَ يحظَ مَن يعانون الوحدة بصحة ضعيفة وحياة أقصر، مقارنة بمن يشعرون بأنهم محاطون بمن يهتمون لأمرهم ويتواصلون معهم.

back to top