قراءة الأدب... تقوي دماغك حقاً؟

نشر في 30-09-2015 | 00:01
آخر تحديث 30-09-2015 | 00:01
No Image Caption
كما أن ملء الرئتين بالهواء يجعلك تشعر بنشاط جسدي أكبر، كذلك يبدو أن كلمات وعبارات الأعمال الأدبية العالية الجودة تمرن الدماغ وتطهره.

عندما تخبئ هاتفك الخلوي، تطفئ حاسوبك، وتبحث عن لحظات قليلة هادئة لتطالع الشعر أو رواية مميزة، تشعر بالتأكيد أن هذا يعود عليك بالفائدة.
هذا ما تشعر به. لكن الباحثين في مجال علم النفس يواجهون صعوبة في توثيق فوائد المطالعة الملموسة. ولا عجب في ذلك. أولاً، هذا موضوع دارسة معقد لأن مَن يكونون أكثر ذكاء ويتمتعون بمهارات عاطفية أكبر، يميلون على الأرجح إلى مطالعة الأعمال الخيالية والشعر، ما يعني أن من الصعب تحديد ما إذا كان التحلي بالذكاء يدفعك إلى المطالعة، أو أن القراءة  تدفعك إلى ذلك، أو أن هذين الطرحين صحيحان. بالإضافة إلى ذلك، ثمة أنواع كثيرة من الأعمال الأدبية، طرق مختلفة لمطالعتها (من القراءة بنهم إلى مطالعة الرواية ببطء)، وفوائد عدة للتحقق منها. باختصار، لا يشكل هذا موضوعاً يمكن خوضه ودراسته بسهولة.

لنتأمل في دراسة أجريت عام 2006 واكتشفت أن مَن امتلكوا مهارات تعاطف أقوى عرفوا أسماء عدد أكبر من الروائيين، ما يُعتبر في بعض الأوساط دليلاً على أن مطالعة الأعمال الخيالية تجعلك أكثر تعاطفاً.

ولكن مَن يقول إن مَن يتمتعون بتعاطف أكبر لا يميلون أكثر إلى المطالعة؟ ربطت دراسة أحدث، لاقت ضجة كبيرة، بين خبراء مطالعة الأعمال الخيالية الأدبية (لا قراءة الأعمال الشعبية الخيالية والواقعية) وتحسن بعض المهارات العاطفية. لكن النقاد أشاروا إلى خيارات الخبراء العشوائية والمحدودة (على سبيل المثال، خبراء دون ديليلو وليديا دافيس في الأعمال الأدبية الذكية مقارنة بخبراء دانيال ستيل وروزاموند بيلشر في الأعمال الخيالية الشعبية)، وأشاروا إلى عدم انتظام الفوائد الظاهرية. فقد بدا أن مطالعة الأعمال الأدبية الخيالية لم تؤثر إلا في بعض الاختبارات التي اعتمدت (مثل قراءة المشاعر من خلال الوجوه) من دون سواها، وخصوصاً تلك التي شملت محاولة استنتاج ما كان الشخص يفكر فيه.

في السنوات القليلة الماضية، انضم علماء الأعصاب إلى مهمة قياس ومراقبة الفوائد الملموسة التي تنتج من مطالعة الأعمال الأدبية.

 في عام 2014، مثلاً، تصدر تقرير، يقوم على تصوير الدماغ، عناوين الأخبار الدولية لأنه أظهر، على ما يبدو، أن قراءة رواية Pompeii: A Novel  لروبرت هاريس تبدّل أنماط التواصل في محاور وظيفية محددة في دماغ الإنسان. لكن المؤسف أن الدراسة لم تشمل أي اختبار لأداء المشاركين العقلي، فضلاً عن أنها لم تكن مضبوطة. ويعني هذا، بخلاف العناوين المتحمسة مثل «تنامي عمل الدماغ طوال أيام بعد مطالعة رواية»، أننا لا نعرف يقيناً ما إذا كانت هذه التبدلات في الوصلات تحسن مهارات الناس العقلية والعاطفية، وما إذا كانت نشاطات أخرى، مثل الدردشة مع الأصدقاء، تؤدي إلى التأثيرات عينها أو تأثيرات مشابهة.

نُشرت أخيراً الجهود الأحدث في مجال الابحاث هذا في موقع مجلة Cortex على شبكة الإنترنت مع عنوان مثير للاهتمام: {هل أقارن هذه: الأسس العصبية للوعي الأدبي وفوائدها المعرفية؟}. تألف فريق الأبحاث هذا، الذي قادته نوين أسليفان، من مجموعة من علماء الأعصاب المعرفية والباحثين الأدبيين في ليفربول بإنكلترا. وقد سعى إلى تقديم بعض الأدلة التي تستند إلى الدماغ، عما يجعل المطالعة على ما يبدو مفيدة {للصحة العقلية والخير العام}.

لكن الأبحاث التي يرتكز عليها العلماء كدليل على وجود هذه الفوائد لا تُعتبر متقنة في المقام الأول. على سبيل المثال، شملت إحدى الدراسات التي ذكروها فوائد ظاهرية تمتع بها مَن عانوا الكآبة نتيجة مشاركتهم في مجموعة مطالعة في عيادة طبيب العائلة. لكن هذه الدراسة لم تشمل مجموعة ضبط لمقارنة النتائج، ما يجعل من المستحيل أن نعزو بثقة أياً من هذه الفوائد إلى المطالعة (مقارنة، مثلاً، بالاختلاط مع مجموعة من الناس).

ولكن بغية المضي قدماً في دراستهم، افترض الباحثون أن هذه الفوائد قائمة، وسعوا إلى تحديد سببها. اعتقدوا أن مطالعة أعمال أدبية معقدة، بما فيها الشعر، تتطلب مرونة من الدماغ بغية التفكير في المعاني المختلفة، وأن هذه المقدرة الفكرية تتجلى بعد ذلك في الحياة العملية، متيحةً للقارئ التفاعل بمرونة وانفتاح مع تجاربه ومشاكله الخاصة. كذلك اعتقد الباحثون أن هذه المرونة العقلية المتنامية يجب أن تظهر من خلال وظائف الدماغ. وادعى فريق البحث هذا أنه عثر على الدليل العصبي على ذلك. ولكن عندما تتأمل النتائج التي توصلوا إليها عن كثب، تلاحظ أنها ليست مقنعة وسهلة التوضيح كما تبدو للوهلة الأولى.

بغية اختبار نظرياتهم، جنّد الباحثون 24 طالباً جامعياً يتخصصون في الأدب الإنكليزي (16 امرأة)، وطلبوا منهم التمدد في آلة لمسح الدماغ ومطالعة وتأمل 48 مقطعاً شعرياً ونثرياً يتألف كل منها من أربعة أسطر، وقد انتهى عدد منها بسطر يتطلب إعادة تقييم المعنى.

إليك مقطعاً شعرياً لم يتطلب إعادة تقييم المعنى:

ما هدف النهار؟

نعيش في النهار.

يأتي ويوقظنا

المرة تلو الأخرى.

إليك مقطعاً شعرياً يتطلب إعادة تقييم المعنى:

عاشت مجهولة، وقليلون عرفوا

متى توقفت لوسي عن الوجود.

لكنها في قبرها، وآه!

يا للاختلاف بالنسبة إلي!

إليك مقطعاً نثرياً لم يتطلب إعادة تقييم المعنى:

العلاجات موجودة لنكتشفها.

إن لم تكن في الطبيعة، فسنعثر عليها في زجاجة.

قد تكون هذه مقنعة وقد تبدل حياتنا.

لكنني سئمت البحث عن علاج.

إليك مقطعاً نثرياً يتطلب إعادة تقييم المعنى:

عاشت حياة وحدة في البلد

حيث حاول البحث عنها

عندما رأى المنزل الزاهي المفعم بالحياة

عرف أنها ماتت.

بعد الخضوع لمسح للدماغ، تأمل الطلاب ما طالعوه من جديد وحددوا مدى شاعريته وما إذا شعروا أن عليهم التوقف وإعادة تقييم معناه. فاعتبر الباحثون أن الطلاب، الذين برعوا أكثر في تمييز الشعر من النثر وفي تحديد متى كان عليهم إعادة تقييم المعنى، يتمتعون بـ{وعي أدبي» أقوى، الذي يشير الباحثون إلى أنه ينبع من الوقت الذي يمضيه الإنسان في مطالعة الشعر والأعمال الأدبية المتقنة، لا من التحلي بذكاء أكبر وفق الباحثين.

بدا نشاط دماغ الطلاب مختلفاً، عندما تأملوا في الشعر، مقارنة بالنثر، وقد اختلف بين قراءتهم الأعمال الأدبية وتأملهم فيها. على سبيل المثال، ارتبطت قراءة الشعر بنشاط أكبر في أجزاء من القشرة الجبهية والقشرة الصدغية (قرب الأذنين)، علماً أن لهاتين المنطقتين من الدماغ علاقة باللغة، الذاكرة، والعواطف من بين وظائف أخرى. ويتلاءم هذا مع فكرة أن الشعر أكثر تطلباً ويرغم القارئ على إبقاء تفسيرات عدة في فكره في آن. الأهم من ذلك بالنسبة إلى نظرية الباحثين أن نشاط دماغ الطلاب تبدل أيضاً بتبدل مستويات الوعي الأدبي.

أثناء مطالعة الشعر والنثر والتأمل فيهما خصوصاً، أعرب مَن يتمتعون بمقدار أكبر من الوعي الأدبي عن معدلات مختلفة من النشاط في مناطق تشكل ما يُدعى الشبكة التنفيذية المركزية (بما فيها مناطق الدماغ الجبهية والمناطق القريبة من أعلى الرأس في الفص الجداري) وما يُدعى شبكة النشاطات المهمة (بما فيها مناطق تتولى ضبط وظائف الجسم الأساسية وتمثيل حالات الجسم، مثل جذع الدماغ والجزيرة).

كذلك ارتبط الوعي الأدبي بأنماط نشاط الدماغ التي لوحظت خصوصاً حين تأمل الطلاب الشعر، بما فيها عقد أساسية في ما يُدعى شبكة النمط المعياري، التي تتألف من مجموعة من مناطق الدماغ تزداد نشاطاً عندما تنفصل عن العالم الخارجي.

تفكير بمرونة

عند التأمل في هذه النتائج برمتها، نلاحظ أنها تشير إلى أن الطلاب الأكثر تأثراً بالاختلافات بين الشعر والنثر وأكثر وعياً للتبدلات في المعنى تمتعوا بمجموعة من أنماط النشاط المميزة في الدماغ فيما كانوا يقرأون، مقارنة بمن حظوا بوعي أدبي أدنى.

تؤكد أسليفان وفريقها أن هذه الاختلافات مهمة، وأنها تقدّم دليلاً في الدماغ يُظهر أن الوعي الأدبي الأكبر يرتبط بالقدرة على التفكير بمرونة أكبر وعلى التفكير في معانٍ عدة في آن. باختصار، يكتب الباحثون: «نرى تشابهاً بين العملية المركبة التي يمر عبرها القارئ عند مطالعة نص معقد وخليط حالات عدم اليقين، الخيارات، الإخفاقات، النجاحات، والأفكار التي يمر بها الإنسان خلال حياته اليومية».

بما أنني أحد عشاق الأعمال الأدبية الخيالية (باستثناء الشعر، على ما أعتقد)، أحببت هذه الفكرة كثيراً. فهي عفوية وتشير إلى أن مطالعة رواية جوناثان فرانز الجديدة لن تكون ممتعة فحسب، بل ستدرب أيضاً الدماغ على التكيف بشكل أفضل مع تقلبات الواقع. رغم ذلك، لا يبدو أن هذه النتائج، كما هي الحال مع الجزء الأكبر من الأبحاث في هذا المجال، قد اقتربت حتى من دعم الفرضيات الكبيرة التي تُطرح. ففي هذه الحالة، قدّم الباحثون بعض التفسيرات المحددة المميزة لمدى واسع من أنماط نشاط الدماغ التي ترتبط، حسبما يظهر، بالوعي الأدبي الأكبر. فمن المحير بالتأكيد أن يتحلى الطلاب الذين يتمتعون بوعي أدبي أكبر بنشاط دماغ مختلف، لكن تفسيرات الباحثين لهذه الاختلافات في الدماغ تبقى مجرد تخمينات.

لا يعرف الباحثون ما إذا كان قياسهم للوعي الأدبي مجرد إشارة إلى خاصية أكثر شيوعاً، مثل الذكاء. فهم لا يملكون أي معلومات عن خير الطلاب العام، تطلعاتهم في الحياة، أو مهارات التأقلم في الحياة. بالإضافة إلى ذلك، يجب ألا ننسى أننا لا نملك الكثير من الأدلة النفسية المتينة التي تثبت فوائد المطالعة في المقام الأول. لذلك من المنطقي القيام بهذا البحث أولاً قبل محاولة اكتشاف الأسس العصبية لتأثيرات لم تبرهَن بفاعلية بعد.

باختصار، سيبدو مميزاً لو أن أن الطلاب، الذين يتمتعون بوعي أدبي أكبر، يتفاعلون مع الحياة من وجهة النظر الفلسفية لشاعر أو راوٍ. ولكن في الوقت الراهن، رغم الاكتشافات المهمة التي توصلت إليها عمليات مسح الدماغ، تظل هذه الفكرة مجرد خبر جيد ومفرح ينتظر الأدلة التي تثبته.

back to top