دماغك أحسن في الشتاء

نشر في 20-02-2016 | 00:01
آخر تحديث 20-02-2016 | 00:01
No Image Caption
كان البرد قارساً في نيويورك. في هذه الفترة من السنة، يتحدث الناس عن التغيرات الموسمية التي تؤثر على مزاجهم ومستوى طاقتهم، لا سيما الاضطراب العاطفي الموسمي. صحيح أن هذا الاضطراب يُعتبر حالة جديدة نسبياً (يشتق من أبحاث جرت خلال الثمانينيات)، لكنه أصبح جزءاً أساسياً من النقاش الذي يدور حول الشتاء في المناخات الباردة.
يعلم الجميع كيف يؤثر الشتاء على بعض الناس، فقد يعكّر مزاجهم ويجعلهم أكثر ميلاً إلى الاكتئاب، حتى أنه قد يبطئ تفكيرهم في بعض الحالات. ثمة سبب لتفسير هذه الصورة الشائعة عن رغبة الناس في ملازمة السرير الدافئ حتى انتهاء فترات البرد.

لكن أدرك العلماء أن هذا الاستنتاج قد يكون غير دقيق. تتحدى دراستان جديدتان عدداً كبيراً من الفرضيات الشائعة عن الآثار النفسية لموسم الشتاء وتدعوان إلى رؤية هذا الموسم من منظور جديد ومشرق. قد يكون الطقس غائماً وبارداً لكن تشير أحدث المعطيات العلمية إلى أن البشر يجيدون التعامل مع هذا الوضع أكثر مما يظنون، على مستوى المزاج وأهم الوظائف الدماغية.

كانت أول دراسة عبارة عن تحقيق واسع نُشر حديثاً في مجلة {علم النفس العيادي}. تشمل الدراسة 34294 شخصاً راشداً أميركياً وتشكك بالمفهوم القائل إن أعراض الاكتئاب تزداد سوءاً في أشهر الشتاء.

طلب الباحثون، بقيادة الأستاذ ستيفن لوبيلو من جامعة أوبرن في مونتغمري، من المشاركين أن يجيبوا على استطلاع بشأن أعراض الاكتئاب لديهم خلال الأسبوعين السابقين. أجرى المشاركون الاستطلاع في أوقات مختلفة من السنة، ما سمح للعلماء بالبحث عن أي أنماط موسمية محتملة.

على عكس الأفكار الشائعة في هذا المجال، لم تقدم نتائج الدراسة أي أدلة على تفاقم أعراض الاكتئاب في الشتاء أو أي فترة أخرى من السنة. اتّضح غياب الأثر الموسمي عند تحليل العينة كلها أو عند الاكتفاء بتحليل أجوبة الأشخاص الذين تحدثوا عن أعراض الاكتئاب. كذلك لم تبرز أي علاقة بين النطاق الجغرافي ونسبة التعرّض لأشعة الشمس في يوم إجراء الاستطلاع ودرجات الاكتئاب.

يدرك الباحثون معنى هذه النتيجة بالنسبة إلى {النظرية الشعبية الراسخة} التي تعتبر أنّ الشتاء يسبب الاكتئاب أو يزيده سوءاً. لذا كتبوا أن نتائجهم {تشكك بأن يعكس الاكتئاب الحاد الذي يحصل مع التغيّر الموسمي اضطراباً نفسياً حقيقياً}. بحسب رأيهم، كانت الدراسات السابقة بشأن مفهوم الاضطراب العاطفي الموسمي شائبة لأنها اختارت أشخاصاً يواجهون أصلاً تغيرات مزاجية مرتبطة بفصل الشتاء: تكون هذه المقاربة منحازة على الأرجح أو تعمد إلى تفسير الأدلة التي تدعم النظرية السابقة بشكل انتقائي. هذا هو جوهر الشعور الحدسي. بعد انتشار مفهوم الاضطراب العاطفي الموسمي، ترسّخ في مخيلة الرأي العام ثم أنتج قطاعاً كاملاً يرتكز على أساليب معالجة «الحالة»، بما في ذلك استخدام الضوء الاصطناعي.

تبقى الأدلة التي تثبت صحة الاضطراب العاطفي الموسمي ناقصة، لكن بعدما اقتنع الناس بأن أشهر الشتاء تؤثر على مزاجنا، كان يسهل عليهم أن يفترضوا أنها تعطي أثراً معاكساً على المستوى المعرفي أيضاً، لذا تعج شبكة الإنترنت الآن بمقالات حول طرق هزم الخمول في الشتاء.

دراسة جديدة

 نُشرت دراسة في {وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم} حلّلت أثر مختلف فترات السنة على وظيفة الدماغ الأساسية. إنها إحدى أولى الدراسات التي تتناول هذا الموضوع ويبدو أنها تتماشى مع نتائج دراسة درجات الاكتئاب وترفض المفهوم الثقافي الشائع عن آثار الطقس البارد.

طلب علماء أعصاب، بقيادة كريستيل ماير من جامعة لييج في بلجيكا، من 28 شاباً وشابة الإجابة على أسئلة حول مزاجهم وعواطفهم ومستوى يقظتهم في أوقات مختلفة من السنة، ثم قاسوا مستويات الميلاتونين (هرمون ينظم دورة النوم) لديهم وأجروا اختبارين نفسيَّين أثناء مسح الدماغ. قيّم الاختبار الأول مستوى اليقظة وشمل الضغط على زر، بأسرع وقت ممكن، كلما ظهرت ساعة على الشاشة في فترات عشوائية. أما الاختبار الثاني، فكان يهدف إلى تقييم عمل الذاكرة وتطلّب الإصغاء إلى دفعات من الرسائل وتحديد المجموعات المشابهة للرسالة التي ظهرت قبل ثلاث مرات. أراد الباحثون التأكد من تغيّر النشاط الدماغي خلال هذه المهام مع اختلاف المواسم. لم تتغير مستويات اليقظة أو الوضع العاطفي أو معدلات الميلاتونين لدى المشاركين في الدراسة تزامناً مع تغيّر المواسم، بل إنهم قدموا أداءً جيداً بالمستوى نفسه في الاختبارَين، بغض النظر عن الموسم، ما أضعف الفكرة القائلة إنّ الشتاء له أثر معاكس على القدرات العقلية. كشف السؤال المرتبط بالمزاج عن حصول تغير موسمي معين، لكن تعكّر مزاج المشاركين في الخريف وليس الشتاء. في ما يخص الوظيفة الدماغية الكامنة، بلغ النشاط العصبي ذروته خلال اختبار الذاكرة لدى المشاركين الذين خضعوا للاختبار في الربيع، بينما تراجع ذلك النشاط إلى أدنى مستوياته لدى الأفراد الذين أجروا الاختبار في الخريف. في المقابل، لم تُسجَّل أي نتيجة استثنائية خلال الشتاء، فقد كان النشاط الدماغي في هذه الفترة متوسطاً.

النشاط الدماغي والعصبي

خلال اختبار اليقظة، تراجع النشاط الدماغي إلى أدنى مستوياته في الشتاء وبلغ ذروته في الصيف. اعتبرت بعض المنشورات الإعلامية هذه النتيجة دليلاً على الميل إلى الخمول في الشتاء. لكن بما أن أداء المشاركين ودرجة يقظتهم يحافظان على المستوى نفسه خلال الشتاء وفي فترات أخرى من السنة، يمكن اعتبار تراجع النشاط الدماغي في الشتاء مؤشراً على تحسّن الفاعلية. راقبت الأبحاث أداء أشخاص يتمتّعون بخبرة أوسع في مجالهم ولاحظت تراجع نشاطهم الدماغي أثناء أداء مهمّة معينة حين يصبح الدماغ أكثر فاعلية.

أو يمكن تفسير تراجع النشاط العصبي خلال الشتاء بدخول الدماغ في {نمط افتراضي} يسمح له بتقديم أداء بمستوى أدائه في الصيف لكن باستعمال نسبة أقل من الموارد. إنه تفسير منطقي من المنظور التطوري: حين تكون الموارد ضئيلة والأحوال الجوية سيئة، من الأفضل أن يتمكن الدماغ من أداء المهام الأساسية، لا سيما تلك المرتبطة بمستوى اليقظة، من دون استنزاف كامل قدراته. يبدو أن دراسة سابقة (يتجاهلها الكثيرون) نُشرت في أواخر التسعينات في مجلة {علم النفس المعرفي التطبيقي} تدعم هذا الافتراض القائل إنّ وظيفتنا العقلية تتحسن في الشتاء. اختبر باحثون من جامعة ترومسو في النروج 62 مشاركاً أثناء قيامهم بمجموعة من المهام العقلية في الشتاء ثم في الصيف (خضع لها البعض في الشتاء أولاً والبعض الآخر في الصيف لتقييم آثار توقيت إجراء الاختبار). كانت الظروف مثالية لهذا النوع من الدراسات لأنّ التناقضات بدت متطرفة جداً: تقع {ترومسو} على بُعد أكثر من 180 ميلاً من شمال منطقة القطب الشمالي، ما يعني غياب الشمس في {ترومسو} خلال الشتاء وغياب الظلمة في الصيف.

آثار موسميّة

على مر الاختبارات، توصّل الباحثون إلى أدلة ضئيلة على وجود آثار موسمية لكنّ الأدلة التي وجدوها تصبّ في مصلحة الشتاء. خلال الشتاء، قدّم المشاركون أداءً أفضل في اختبارين مختلفين يقيسان توقيت ردود الفعل وبرزت أدلة على تحسن مستوى السيطرة العقلية في اختبار {ستروب} الذي يتطلب تسمية كلمات ملوّنة تزامناً مع تجاهل لون الحبر المستعمل لكتابة تلك الكلمات. صبّ اختبار واحد في مصلحة الصيف بدرجة معينة، وتحديداً على مستوى الطلاقة اللفظية. لخّص الدكتور تيم برينان وزملاؤه نتائجهم فكتبوا: {رغم شعورنا الذاتي بتراجع نشاطنا العقلي خلال الشتاء، لا تدعم بياناتنا هذا الادعاء المبني على حدسنا}.

يكره الكثيرون الشتاء لأسباب واضحة، وتتماشى الفكرة القائلة إن هذه الأشهر المظلمة تجعلنا بائسين وتضعف قدراتنا المعرفية مع النظرية التي تؤكد على صعوبة التعامل مع هذه الفترة من السنة. كتب آدم غوبنيك: {تتعلق إحدى أبرز الاستعارات الطبيعية الشائعة باعتبار فصل الشتاء فترة العزلة والانسحاب. وتعكس أقدم الاستعارات المرتبطة بالشتاء معنى الخسارة}.

لكن يجب أن نفهم أنّ توقعاتنا الشخصية تحدّد مسار تجاربنا في العالم: بعد سماع هذه النظرية عن تباطؤ التفكير وارتفاع مستوى الخمول والحزن خلال الشتاء مراراً وتكراراً، قد نعتبر الأيام التي نشعر فيها بالإحباط {لأسباب أخرى} إثباتاً على مسؤولية الشتاء.

لا شك في أنّ الشتاء يطرح مصاعب كثيرة في حياتنا اليومية، كأن نضطر للتكيّف مع الزكام والإنفلونزا ونذهب إلى العمل رغم سوء الأحوال الجوية، لكن تشير الدراسات الجديدة إلى أنّ هذا الفصل لا يترك أثراً غريباً وسيئاً في دماغنا. وتشير البيانات إلى زيادة النشاط العقلي في هذه الفترة من السنة أكثر من الصيف. تفاءل بهذه الأنباء الواعدة إذاً وجدّد نشاطك رغم الطقس البارد!

back to top