الجلوس... العادة الأكثر ضرراً بالصحة
يظن العداء المحترف آدم سان بيار أنه يتقن التمرن. عالم النفس الرياضي ومدرّب الركض من بولدر في كولورادو يركض نحو 65 إلى 112 كيلومتراً أسبوعياً، يمارس تمارين التمطط 15 دقيقة مرتين في اليوم، ويخضع لجلسة علاج بالتدليك مرتين كل شهر. ولكن في ذروة موسم الركض عام 2014، كاد هذا الرياضي البالغ من العمر 33 سنة يخرج من السباق بسبب عضلات الوركين. يخبر:{تمتد هذه العضلات من عظم الفخذ إلى الحوض. وعندما تشتد، تفقد مدى الحركة والكثير من سرعتك، وتشعر أنك تريد التبول باستمرار}. لا يمكن تحمل هذا الوضع خلال يوم عادي، فكم بالأحرى خلال سباق مسافته 160 كيلومتراً.
راح سان بيار يبحث عن حلّ. حاول اتباع نظام بيلاتس، التمطط أكثر، ومط عضلاته الأساسية. رغم ذلك، استمر الألم. أخيراً أدرك أنه تغاضى عن جزء أساسي من روتينه اليومي: يمضي ست ساعات بالجلوس وراء مكتبه. يقول سان بيار: {بذلت كل جهدي لأبقي عضلاتي مسترخية كفاية كي أتمكن من الركض، لكني تجاهلت هذا التغيير البسيط الواضح}.لذلك حوّل سان بيار مكتبه إلى مكتب يمكنه الوقوف خلال العمل عليه وخفض الفترة التي يمضيها في الجلوس إلى النصف. وفي غضون أسابيع، استرخت عضلات الوركين. وبعد شهرين، شارك في سباق 80 كيلومتراً في فرمونت محققاً أفضل وقت به (8 ساعات و18 دقيقة). يخبر: {كنت بحالة جيدة. ومنذ ذلك الحين، لاحظت أن ألم أسفل ظهري المزمن اختفى}.
إن كان الجلوس مطولاً وراء المكتب يلحق الأذى برياضي محترف مثل سان بيار، تخيل الأذى الذي قد يسببه لشخص عادي. وهذا بالتحديد ما يسعى خبراء علم نفس الخمول الحديث العهد إلى اكتشافه، وقد تفاجأ عندما اطلع على خلاصاتهم. يمضي معظمنا أكثر من 10 ساعات في الجلوس، علماً أن هذه الفترة أطول من الوقت الذي ننامه. ولكن خلال الجلوس، تحدث أمور سيئة كثيرة: يرتفع معدل السكر في الدم، تزداد العضلات انقباضاً، ويتباطأ تدفق الدم إلى القلب، حتى لو كنت تتمرن بانتظام. يوضح مارك هاميلتون، بروفسور في مركز بينينغتون للأبحاث الطبية الحيوية في لويزيانا درس علم نفس الخمول طوال 20 سنة: {هذا أحد الأسباب التي تمنع الكثير من الأشخاص المستائين من إجراء تغييرات كبيرة ومهمة في صحتهم}. يضيف هاميلتون أن العادات الجيدة مثل التمرن وتناول عذاء صحي لا تكفي، {تشهد أجسادنا تبدلات قوية جداً خلال الأوقات التي نجلس فيها من دون حراك}.تكتل كريات الدم الحمراءتخيل أنك أمضيت يوماً طويلاً في كرسي مكتبك. هل تشعر في تلك اللحظة أنك ما عدت تملك ما يكفي من الطاقة؟ في هذه اللحظة تبدأ كريات الدم الحمراء بالتكتل في ساقيك، فتزداد كثافة في أوعيتك الدموية وتتباطأ حركتها. وإذا لاحظت لاحقاً تراجعاً إضافياً في طاقتك، يعود ذلك إلى تراجع إنتاج الإنسولين في جسمك، بدل أن يتدفق إلى عضلاتك لتزويدها بالطاقة. وسرعان ما يتعطل إنزيم أساسي (ليباز) مسؤول عن إخراج الدهون من الجسم. نتيجة لذلك تبدأ كميات صغيرة من الدهون بالتراكم في الدم. فيخزنها الجسم في موضع أساسي حيث يمكنه استعمالها بسهولة: الأمعاء (قد يكون هذا أحد الأسباب التي تصعّب عليك خسارة الكيلوغرامات الزائدة رغم ممارستك رياضة الجري كل صباح). كذلك قد تشعر دوماً بالجوع، مع أنك لم تتحرك. ويعود ذلك إلى أن هرموني الليبتين والغريلين المعدلين للشهية يختلان. في هذه الأثناء، تعاني تبدلاً فيزيولوجياً أقل وضوحاً: في أعماق عضلات الساقين، تتوقف جينة (LPP1) أساسية في كبح التخثر والالتهاب عن العمل. بحلول المساء، تكون معدلات الكولسترول الجيد وحساسية الإنسولين، رغم استراحة الغداء والرحلات المتكررة إلى براد الماء، قد تراجعت بنسبة تتراوح بين 20% و40%.إن أمضيت يوماً أو أسبوعاً على هذه الحال، فلا مشكلة. لكن هذه العملية تتكرر طوال سنوات. وقد تتمكن من فهم هذا الواقع إن وُصف على النحو التالي: يكون خطر الإصابة بمرض قلبي وعائي أكبر بنحو مرتين ونصف مرة بين مَن يمضون الجزء الأكبر من يومهم في الجلوس، رغم الاستراحات المتكررة والتمرن بانتظام، حسبما يشير تحليل أجري عام 2012 وشمل نحو 800 ألف شخص.لا يُعتبر مَن يمارسون الرياضة باستمرار أفضل حالاً. أظهرت دراسات عدة أن مَن يتمرنون بانتظام يمضون وقتاً أطول وهم جالسون، مقارنة بمن لا يتمرنون. وربما يعود ذلك إلى اعتقادهم بأن ممارسة الرياضة تمنحهم الحق بالتمدد والاسترخاء (يكشف الباحثون أن نمط حياة ممارسي الرياضة يُعتبر أكثر خمولاً بمعدل الضعف في الأيام التي يقصدون فيها صالة الرياضة). يذكر هاميلتون: {من الغباء الاعتقاد أن 30 إلى 45 دقيقة من التمرن كل يومين ستحصننا من تأثيرات اتباع نمط حياة خامل طوال 70 إلى 80 ساعة في الأسبوع}.ولكن حتى مَن يمضون ساعات في الجلوس وراء المكتب يُضطرون إلى النهوض لتناول الطعام أو قضاء حاجة ما. ولا شك في أن هذه الأمور مفيدة. قارنت دراسة أخيرة أعدتها جامعة إنديانا بين مَن يجلسون طوال ثلاث ساعات من دون النهوض مطلقاً ومَن ساروا لخمس دقائق كل ساعة. فتبين أن الدورة الدموية تراجعت إلى النصف في حالة مَن لم ينهضوا مطلقاً، في حين أنها لم تتراجع البتة في الفئة الثانية. لكن خمس دقائق من المشي كل ساعة لن تلغي تأثيرات الجلوس الفيزيولوجية: تراجع الحساسية تجاه الإنسولين وارتفاع معدل الالتهاب. يشبه هذا محاولة إلغاء تأثيرات تناول المأكولات السريعة باختيار وجبات خفيفة صحية. يشير هاميلتون: {يتفاعل جسمك مع ما تقوم به طوال اليوم}.تأثيرات الجلوسقد تكون تأثيرات الجلوس بارزة من الخارج أيضاً، حسبما تؤكد خبيرة التمارين التصحيحية إليزابيث بونغو. إليك ما يحدث لمن يمضي نهاره في العمل وهو جالس، وفق بونغو: تستدير الكتفان وينحي الرأس نحو الأمام، ما يصعب على الرئتين التمدد وإدخال الهواء فيما تعدو في ملعب كرة السلة أو تجتاز سباق الخمسة كيلومترات. تعني تلك الحدبة في ظهر موظف المكتب التقليدي أن عظم العضد (العظم العلوي من الذراع) قد يكون منحنياً إلى الأمام ويتلف ببطء محجر الكتف. وعندما ترفع الأثقال، تلحق التمارين التلف بالكفة المدورة، الغضروف، والمفصل. طوال اليوم، يتعلم جسمك هذه الوضعية الخاطئة مراراً. فتقصر عضلات الوركين وتتصلب وتضعف عضلات الردفين، ما يؤدي إلى تراجع القوة ومدى الحركة خلال حركات القرفصاء وتمارين الساقين وأي نشاط يتطلب حركات قوية مفاجئة.من حسن الحظ أن الحل بسيط نسبياً. بالإضافة إلى التفكير {كم سأتمرن هذا الأسبوع؟}، اسأل نفسك: {كم سأجلس؟}. من الممكن للنشاطات الصغيرة أن تؤدي إلى تأثير كبير. يدعو الخبراء ذلك {توليد الحرارة من خلال النشاطات غير التمرن}. حرك بطتي ساقيك، مطهما، وتحرك في كرسيك. تتطلب كل هذه الحركات البسيطة طاقة، وهكذا تتراكم السعرات الحرارية، حسبما يؤكد الباحث في مايو كلينك جيمس ليفين.تتبع ليفين حالة عمال ارتدوا أجهزة لاستشعار الحركة بالغة الحساسية. فما كانت النتيجة؟ بعد أخذ كل المتغيرات في الاعتبار، جلس الأشخاص الأقل وزناً فترة أقل بنحو 2.25 ساعة يومياً، وقاموا بعدد أكبر من الحركات البسيطة التي ساعدتهم في حرق كمية من السعرات الحرارية أكبر بنحو 350 سعرة. يؤكد ليفين: {يدعم هذا فكرة أن ثمة علاقة مباشرة بين توليد الحرارة من خلال النشاطات غير التمرن وقدرتك على تفادي اكتساب الوزن}.توليد الحرارة تستثمر شركات من «فيسبوك» إلى البنك الاحتياطي الفدرالي في طاولة مكتب يمكنك الوقوف عند استخدامها. كذلك عمدت شركات أخرى إلى تقليص غرف المكاتب لتوسيع الممرات ومواقع عقد الاجتماعات وقوفاً.في إحدى الدراسات التي أجراها ليفين، تمكن الموظفون الذين زُوّدوا بوحدات تتيح لهم الجلوس أو الوقوف خلال العمل من تقليض فترة جلوسهم بنحو 91 دقيقة يومياً. كذلك عززوا توليد الحرارة من خلال نشاطات غير التمرن بنسبة 33%. وفي حالة تقليدية عن «لا تعرف كم كنت تشعر بالسوء إلى أن تشعر أنك أفضل»، أفاد كثيرون أنهم صاروا أكثر تيقظاً وأقل كآبة، لا في العمل فحسب، بل بعد عودتهم إلى المنزل أيضاً.كان هذا هدف جون فولكستاد، أحد مؤسسي شركة Salo LLC المالية في مينيابوليس، عندما زود موظفيه بطاولات يمكنهم الوقوف عند استخدامها. يذكر فولكستاد: {بصراحة، لم نقل إننا بحاجة إلى الوقوف أكثر من أجل صحتنا. كان الهدف التمتع بطاقة أكبر}. ويؤكد اليوم أن موظفيه صاروا يتمتعون بطاقة أكبر راهناً. قبل تبديل طاولات المكاتب، كان فولكستاد ينهض في الخامسة صباحاً طوال خمسة أيام في الأسبوع. ولكن مع حلول الساعة الثالثة من بعد الظهر، يكون قد بدد كل طاقته ويمضي الأمسيات على الأريكة. أما اليوم، فقد خفض وقت جلوسه إلى النصف ويبقى فاعلاً ونشيطاً طوال 16 ساعة في اليوم. يقول: {هذا منطقي. فالجسم المرتاح يظل مرتاحاً. أما الجسم المتحرك فيظل في حركة دائمة}.استراتيجيات للجلوس فترات أقل: خطط بالدقائق.ينصح عالم الهندسة الإنسانية في كورنويل آلن هيدجيز بالجلوس 20 دقيقة، النهوض 8 دقائق والسير لدقيقتين. ثم كرر هذه العملية. تحسن هذه الصيغة الإنتاجية ووضعية الجسم، أيضاً، وفق الدراسات.الجأ إلى السير.بدل أن تجلس إلى طاولة المكتب وأنت تفكر من دون جدوى، انهض وامشِ خمس دقائق. تشير الأبحاث إلى أنك ستكون أكثر إبداعاً بنسبة 60% عندما تعود إلى المكتب.قف عندما تكون متعباً.اجعل هذا ردة فعل تلقائية. عندما تتثاءب، قف. فالنهوض ينشط الجهاز المنشط الشبكي، وهو مجموعة من الخلايا العصبية في القشرة المخية تحسن اليقظة.بدل نمط تفكيرك.قبل أن تجلس، فكر في هذا القول لباحث مايو كلينيك جيمس ليفين: {يجب أن يكون هدف الجلوس واحداً: منح أجسامنا استراحة من الحركة}.- عندما تجلس طوال الجزء الأكبر من اليوم...- يتضاعف خطر التعرض لداء السكري- بغض النظر عن مقدار التمارين التي تقوم بها- تتراجع الحساسية تجاه الإنسولين بنسبة 40%- يصبح تدفق الدم بطيئاً- فيما تبدأ كريات الدم الحمراء في الساقين بالتكتل- يتراجع الكولسترول الجيد بنسبة 20%- يرتفع خطر الإصابة بمرض القلب- وقد يظل مرتفعاً حتى بعد أن تبدأ بالتحرك.