«أيقونة» الحياة

لكل شاعر تجربته الخاصة مع الأمومة والأم، وكل شاعر أفرز كلماته عنها أو رسائله أو قصائده وحتى قلقه الوجودي والاجتماعي وحتى الفرويدي.

 الشاعر حافظ ابراهيم كتب عن الأم من منطلق تعليمي أخلاقي مدرسي «الأم مدرسة»، ولا يختلف عنه أحمد شوقي الذي قال:

ليس اليتيم مَن انتهى أبواه مِن

هَمِّ الحياة وخلَّفاه ذليلا

فأصاب بالدنيا الحكيمة منهما

وبحسن تربية الزمان بديلا

إن اليتيم هو الذي تلقى له

أُمَّاً تخلَّتْ أو أباً مشغولا

 الشاعر اللبناني سعيد عقل أخذ من أمه الطهارة واقترنت صورتها بالملاك، فكانت قصيدته {أمي يا ملاكي، يا حبي الباقي الى الأبد}، يبدو فيها كأنه أم تكتب عن طفلها، خصوصاً أن القصيدة غنتها فيروز، فزادت من حضورها في الوجدان العام.

 محمود درويش، كما في كل شعره، ارتبطت الأمومة عنده بالقضية والوطن والأرض، قدم قصيدة فيها شيء من العلاقة الواقعية المادية بالأم {أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي}، يبدو السحر في القصيدة من خلال الحديث عن القهوة والاشتياق من المنفى، والنافل أن والدة درويش رحلت بعد رحيله، ويقول عنها في مكان أخر: {لن أسميكِ امرأة، سأسميك كل شيء}.

 الشاعر أنسي الحاج كان أكثر تأزماً وقلقاً في كتابته عن الأم، يقول عن طفولته: {لا أذكر طفولتي تماماً. أنا في نسيان إرادي، بعد موت أمي، قرّرت أن أتعامل مع الواقع على أساس تجاهله}.  سنة 1945 ولمّا يتجاوز السابعة من عمره، مُني أُنسي الحاج بفقد أمه، فطلع نهار دفنها على شجرة تين وطفق يضحك. وظلّ وجدانه يضج بالفقد، وأعماقه عامرة بالغياب، غياب الأم التي ستظل سرّاً غامضاً وقدسيّة مُطهّرة، حاول الاستعاضة عنها برفقة ابن خالته الذي كان يلعب وإياه في البساتين، ويهرب معه من المدرسة، ليذهبا إلى البحر، وسرعان ما التهمه الموت أيضاً، كان الحاج يكتب عن شعور قلق الأم على الرجل وسرعان ما مات بالسرطان.

الشاعر العراقي بدر شاكر السياب فقد أمه مبكراً وهو ‏طفل لم يكمل عامه الأول. فهو إذن لم يعرف أمه، ولهذا كانت صورة الأم لديه ‏غائمة. فقال في {انشودة المطر}:

‏تثاءب المساء

والغيوم ما تزال تسح

ما تسح من دموعها الثقال

كأن طفلاً بات يهذي قبل أن ينام

بأن امه التي أفاق منذ عام فلم يجدها، ثم حين لج في السؤال

قالوا له: بعد غد تعود‏‎…

‎لا بد أن تعود

هذه نماذج قليلة عن الشعر العربي الحديث وعلاقة الشعراء بالأم، في الشعر الأجنبي تبدو الأمور أشد ضراوة وأكثر أسطورية بسبب الاختلاف في المجتمعات، فقد قيل الكثير عن علاقة رامبو بوالدته، لم يكتب عنها لكن علاقته الملتبسة بها تحولت لغزاً للدراسات والأبحاث.  كتب المؤرخون الكثير عما شاب علاقته بها من توترات، فأمه، على ما وصفوا، قاسية، في المقابل ثمة من يقول إنها كانت تحبه وتنصحه وتشفق عليه، أما رامبو فكان يدرك حقيقة مشاعرها نحوه، ويعرف عنها تسامحها معه، لذلك كان يلجأ إليها عند الحاجة.

علاقة الشاعر الفرنسي بودلير مع أمه تبدو أكثر تعقيداً وسطوعاً، كانت مشكلته معها أنها تزوجت بعدما رحل والده. أحس بودلير أن أمه، بزواجها الثاني، تخلت عنه، لأن الزوج الثاني كان شاباً وسيماً، يعمل ضابطاً في الجيش، وقد أغرم بها وأغرمت به، فصار (بودلير) في المرتبة الثانية من الاهتمام والحظوة عند الأم والزوج الجديد، مع أن الاثنين لم يقصرا بحقه، لكن بودلير شعر بأن هذا الزوج منافس له على حب أمه والحظي بها، في هذا الإطار ولدت العلاقة الأسطورية بين الشاعر وأمه، وقد شغلت الباحثين والنقاد.

هذه عينة من أحوال الشعراء مع أمهاتهم، التي تبين {أيقونة} الأم في الحياة.