عودة إلى «طبل الصفيح» لغونتر غراس... رواية تشبه صاحبها

نشر في 25-03-2014 | 00:02
آخر تحديث 25-03-2014 | 00:02
بعدما ترجم الكاتب العراقي المقيم في ألمانيا حسين الموزاني رواية «طبل الصفيح» للروائي الألماني النوبلي غونتر غراس عام 1995، أعاد تدقيق الترجمة في طبعة ثانية، صدرت عن «دار الجمل».
العودة إلى هذه الرواية أقرب إلى المشروع، فهي رواية ضخمة وصعبة ومعقدة ومثيرة للاهتمام، ربما تشبه شخصية غراس نفسه الذي يعتبر أحد الأدباء المتعددي المواهب، فهو روائي وقاص وشاعر ومؤلّف مسرحيّ ورسّام ونحّات وخطيب سياسيّ، وهو الاشتراكي الذي مرّ في طفولته بالنازية، وهو الكاتب الكبير الذي يستعين بمحرر دائم لأعماله، يرافقه أينما ذهب ويحرر له روايته بطريقة مناسبة.

 وغراس المتعدد المواهب والمثير للجدل، سواء في المانيا أو العالم، بقي صيته الأشهر في الرواية، خصوصاً روايته «طبل الصفيح» التي نشرت للمرّة الأولى عام 1959، وترجمت إلى عشرات اللغات وبيعت ملايين النسخ منها، وتعد أحد أهم الأعمال الأدبية التي كتبت بعد الحرب العالمية الثانية، وما زالت إلى اليوم مثار جدل واسع في الأوساط الثقافية والسياسية والدينية.

جاءت الرواية رداً عنيفاً على مقولة الفيلسوف تيودور أدورنو الذي شكك بقدرة الألمان على كتابة عمل ابداعي بعد الهولوكوست أو المحارق النازية،  فتميّزت بجدية وعمق واعتمدت في بعض تقنياتها على أسلوب السرد العربي القديم الذي ينتمي إليه غراس، حسبما أكد في مناسبات عدة.

القزم أوسكار

ولدت فكرة رواية «طبل الصفيح» في ذهن غراس عندما رأى طفلا في الثالثة من عمره يحمل طبلاً، ويتجول ضائعاً بين الموائد متجاهلا عالم الكبار. كتب غراس الرواية في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، وفي مطلع 1958 قام برحلة الى مدينة غدانسك للتحقيق من بعض الأحداث والتحري عن مجريات القتال بين المؤيدين للرايخ الألماني والمؤيدين لبولندا في مطلع الحرب العالمية الثانية.

تتمحور «طبل الصفيح» حول القزم أوسكار، شخصية رئيسة في الرواية،  وصرخته التي كان يستطيع بها تحطيم أي زجاج، وطبلته السحرية التي تحمله إلى الماضي وإلى المستقبل  في الزمان. أفضل حيلة قام بها في الرواية كانت إفساد تنظيم المواكب النازية وطوابيرها... وحين اختفى تحت مقصورة المتفرجين ودق على طبلته ألحاناً معاكسة ومضادة ومخالفة لتلك التي كان يعزفها النازيون، صارت طبلة «غونترغراس» رمزاً لهؤلاء الذين عليهم عزف ألحان غيرهم دائماً. أو ينتظرون من يدق عليها كي تصدر الأصوات - الأوامر...

في هذه الرواية يعمد إلى توظيف أسلوب سردي من التهويل والترويع سبيلاً لاستجلاء أبعاد الماضي القريب، وقد أستعان به غراس لنفيه من دائرة الوعي الحديث وكأنه كابوس فحسب... رفض هذا المجتمع ما جرى من أحداث وشارك فيها وغلف الماضي بالكتب أو بالذكريات الساترة المزيفة.

يرى أوسكار هذا المجتمع الجديد كمظهر آخر للقديم، ويخيم على روايته شعور بالسأم والاجتهاد واللامعنى. على مستوى آخر، يعود بنا الراوي إلى قصة ميلاده ونشأته ومجرى حياته في ظل النازية والحرب، وفي النهاية يلتقي المستويان  في عيد ميلاد «داولكار» الثلاثين.

ينفي أوسكار عن حق أنه يكتب سيرة ذاتية، كما ذهب بعض النقاد، والأصح أنه يكتب سيرة ذاتية سافرة بمعنى أنه يحاول رؤية التاريخ من منظور حياة شديدة الخصوصية، من منظور ذلك القزم المسمى اوسكار ماتزرات... إلا أن القضية أكثر تعقيداً، فأوسكار ذاته  عاجز عن الإلمام بذلك الواقع الذي يعايشه، وهو يرفضه ويتمرد عليه. في النهاية هو شخصية فنية مصطنعة.

ترجمة صعبة

لا شك في أن ترجمة غراس صعبة كما رواياته، يقول المترجم في مقدمته للرواية: «يتسم أدب غراس، وربّما على العكس من أدائه الفنيّ التشكيليّ، بقوّة العبارة ومتانتها وانغلاقها أحياناً، كذلك إحالاتها التاريخية والفكرية والسياسية العديدة؛ مما يجعل هذا الأسلوب صعباً ومعقداً»(..) وبالأخص حينما يتمّ هذا النقل من لغة مثل اللغة الألمانية المعروفة بتركيباتها النادرة إلى اللغة العربية التي لا تقل عنها تعقيداً وبلاغةً، وهنا بالذات تكمن معضلة الترجمة كلّها. ولكي نتأكد من صحّة هذا الرأي، علينا أن نبدأ بعنوان الرواية في الأصل الألماني وهو Die Blechtrommel  وقد جاء معرفاً بأداة تعريف المؤنث die ، فهو يتحدث إذن عن طبل صفيح محدد ويعبّر تعبيراً شاملا ً عن محتوى الرواية، بينما نجد مسميّات مثل {الطبل الصفيح} أو {طبلة الصفيح} أو {الطبلة الصفيح} لا تعطي المعنى ذاته، وسيظل الإيهام يرافقها حتى لو حملت لام التعريف}.

أسلوب الرواية

يتضح من خلال العنوان أنّ هذه الرواية تتحدث عن أداة أو آلة لها علاقة بالفن والموسيقى، أي الطبل الذي يقرع أو ينقر عليه. وتنتمي، حسبما يقرر محقق أعمال غراس فولكر نويهاوس، إلى جنس الرواية التربوية التعليمية على غرار {سنوات تدريب فيلهلم مايستر} لغوته، {هاينرش فون أوفتردنغن} لنوفالس، {هاينرش الأخضر} لغوتفريد كللر، {دكتور فاوستوس} لتوماس مان، {سبمليسسيموس} لغرملسهاوزن، و«دون كشيوت} لسرفانتس.

 في هذه الرواية استوحى غراس الكثير من مقومات بنائها وتقنياتها وأجوائها في ما يتعلق بمعالجة الشخصية ذات النزعة السلبية والساذجة أو الفطرية ومراقبة تطورها النفسي والذهني.

 عنوان الرواية يرتبط في أحد جوانبه بسرد الرواية، والتطبيل إذن هو السرّد، وقد اتخذ طابع القرع اللغوي بمضربين لا يختلفان عن قلميّ الكتابة، بغيةَ ايقاظ الحواس واستحضار الذاكرة واستنطاق التاريخ. والطبل هو الأداة القابضة على الإيقاع والضابطة له منذ بداية الراوية وحتّى نهايتها.

التطبيل السردي أو أسلوب غراس يجهد نفسه ليختط منهجاً سردياً ومنظوراً متجدداً على الدوام، يصوغ من خلاله الوقائع وفق رؤيته الذاتية، حتى لو داخل هذا الأسلوب شيء من الاقتباس والتناص. وضمن هذا الإطار يعتبر غراس أحد المجددين في أساليب السرد الحديثة في ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما يشير المترجم، على الرغم من اتكائه على بعض مقومات النثر القصصيّ في عصر الباروك وآلياته.

النقطة البارزة التي يشير إليها المترجم في مقدمته أن بعض المهتمين بأدب غراس، رأوا وضع فهرست من 380 صفحة، يضمّ مفردات مدوّنة في رواية {طبل الصفيح}، ليتمكن الباحث أو المترجم من تعيين مواضع ورودها وعدد المرات التي وردت فيها، إضافةً إلى وضع تعليق شامل وشروح للأحداث التاريخية وأسماء المدن والأنهار والأعلام.

ويعبّر هذا الاهتمام من ناحية ثانية عن الروح المنهجية التوثيقية التي تتحلى بها المؤسسات الثقافية الألمانية على العموم، بينما نجد الباحث أو المترجم العربي يجهد نفسه ويبدد وقته سدى في البحث عن مفردة مناسبة ليضعها مقابل المفردة المراد ترجمتها. وفي كل مرة يستعين المترجم العربيّ بالقاموس يخيب أمله، نظراً إلى العيوب والنواقص التي يحفل بها القاموس الألماني-العربي.

باتت {طبل الصفيح} من الكلاسيكيات الأدبية في العالم مثل {مئة عام من العزلة} لماركيز، و{الجيل السحري} لتوماس مان و«الغريب} لألبير كامو... ومثل هذه الرواية تشكل امتحاناً للمرء إذا كانت لديه قدرة على القراءة بطريقة كلاسيكية أم أن زمن الـ {فيسبوك} طحن صبره.

back to top