الشاعرة الروسية آنا آخماتوفا... سليلة جنكيزخان (1)

نشر في 02-04-2014 | 00:02
آخر تحديث 02-04-2014 | 00:02
No Image Caption
ضمن {منشورات بيت الشعر} في المغرب، صدر كتاب {قصائد مختارة} للشاعرة الروسية آنا أخماتوفا، أحد أهم رموز الشعر الروسي والعالمي في القرن العشرين. يشتمل الكتاب على مختارات من دواوين أخماتوفا، نقلتها من الروسية إلى العربية الكاتبة والباحثة مريّة التوفيق. وقد تكون هذه من المرات القليلة التي تصدر قصائد أخماتوفا بالعربية في كتاب مخصص لها، مع أن كثيراً من شعرها ترجم في الصحف أو المجلات أو صدر ضمن مختارات.
تسلط الأنظار على أخماتوفا، اليوم، بمناسبة مرور 125 عاماً على ولادتها، وفي هذه المرحلة التي ينشغل العالم بالتوتر بين أوكرانيا وروسيا، مع العلم أنها سليلة أسرة من الطبقة الراقية في أوديسا الأوكرانية، ويوحي اسمها بأنّها تنحدر من سلالة جنكيز خان، التي كانت تحكم مناطق واسعة من الأرض الروسية. وقد اختارت اسمها التتري من جهة أمها، بعدما حرمها أبوها من التوقيع باسم عائلته، لإصرارها على كتابة شعر {انحطاطي}.

كتبت آخماتوفا: {لا أحد في عائلتي الكبيرة كتب الشعر، بيد أن أول شاعرة روسية، آنا بونينا، كانت خالة جدي إيراسم ستوغوف... وخان أخمات أحمد، جدي الأقدم، قتل ذات ليلة في خيمته على يد قاتل روسي أجير... وكان معروفاً أن أحمد هذا كان سليل جنكيز خان}...

قسوة ورعب

آنا آخماتوفا، اسمها الحقيقي آنا غورنغو، وُلدت عام 1889، وتوفيت في الخامس من آذار 1966. بدأ اهتمامها بالشعر في سني شبابها الأولى، وكتبت أولى قصائدها في الحادية عشرة من عمرها، ونشرت بعض بواكيرها في نهاية مراهقتها.

 عاشت آنا وماتت في ظل القسوة والرعب، فقدت في طفولتها أربعة أشقاء وشقيقات ونجت من الموت مع شقيق آخر، ما لبث أن اختفى طوال سنوات لتجده من ثمّ وقد أصبح مهاجراً أميركياً.

شاهدت، وهي طفلة، عهد آخر قيصر في روسيا نيكولاي الثاني، عاصرت  الثورة البولشفية الشيوعية والرعب الستاليني وحملاته القمعية والوحشية في الغولاك، شاهدت تورط روسيا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، تعرضت للقمع من السوفيات بتهمة علاقاتها بالحركات الفكرية لروسيا ما قبل الثورة، عاصرت إعدام أوشيب مندلشتام في أحد معسكرات الاعتقال، وانتحار ماياكوفسكي. أُعدم زوجها الشاعر نيكولاي غوميليوف سنة  1921، كذلك أُعتقل ابنها مرات عدة وزج في معسكرات الاعتقال، أما هي فطردت من اتحاد الكتاب السوفيات، وكتبت ذلك في قصيدتها {قداس جنائزي} (أو جناز)، وهي بمثابة شهادة على عصر الرعب الستاليني. عاشت أخماتوفا وتحملت المحنة، وتعتبر اليوم إحدى قمم الأدب الروسي الحديث.

بدأت قصة آنا  في السابعة عشرة من عمرها (1906) عندما واجهت والدها المهندس البحري بحقيقة أقرب الى الفضيحة قائلة: {أنا شاعرة!}. بعد نيلها الشهادة الثانويّة (1907) دخلت إلى كليّة الحقوق في كييف ودرست تاريخ الأدب، وتعلّمت لغات أجنبيّة.

اعتبرت الشاعر الروسي الكسندر بوشكين هواها الأكبر، إلى جانب الرومانسيين الفرنسيين، وهوميروس وفيرجيل ودانتي، وتركت الأساطيرُ الشرقيّة والأناجيل موقعاً طيّباً في نفس الشاعرة، فأغرمت بها وحفظت الكثير منها.‏

كانت أخماتوفا ذات جمال آسر منذ نعومة أظفارها، تعرفت إلى زوجها الشاعر نيكولاي غوميليوف في الرابعة عشرة من عمرها، في ما بعد تبادلت معه الرسائل. عام 1909 طلب غوميليوف يدها رسمياً، وفي 25 أبريل  1910 عقد قرانهما، ثم سافر العروسان لقضاء شهر العسل في باريس طوال فصل الربيع. هناك التقت الرسام الإيطالي موديلياني، ونشأت بينهما علاقة صداقة.

علاقات ثقافية وغرامية

 

شكلت علاقات آنا الثقافية والغرامية الشغل الشاغل لكاتبي سيرتها، ربما بسبب متطلبات الإثارة المتزايدة في عالم النشر، بعض السير تحدث عن زواج أخماتوفا ونيكولاي غوميليوف الذي أحبها أكثر مما أحبته، واستوعبها بتناقضاتها وأهوائها، وكاد ينتحر لأجلها مرتين قبل أن تقبل به زوجاً... وعلى يديهِ رأت أولى قصائد الشاعرة النور، بعدما نشرها لها على صفحاتِ مجلّة «سيروس» (1911)، وقد ظهرت لفترةٍ قصيرة في باريس، مطبوعةً باللغةِ الروسيّة.‏

 نشرت مجموعتها الأولى «المساء» في 1912 وحازت الإعجاب والثناء، وصنع ديوانها الثاني «فقاعات» (1914) شهرتها، كونه يعاكس تيار الرمزية الذي كان سائداً في المشهد الأدبي الروسي في ذلك الزمان... ثم عادت إلى زيارة مودلياني في باريس، حيث رسم لها عشرين لوحة على الأقل.

بعد مجموعتها الثانية {فقاعات}، نظمت آلاف النساء قصائد تمجِّدها، مقلِّدات أسلوبها، ما أجبر أخماتوفا على القول: {علَّمتُ نساءنا كيف يتكلمن، لكنني لا أعرف كيف يمكن تعليمهن الصمت}. وبسبب سلوكياتها الأرستقراطية، وإنجازها الأدبي، سُميت {ملكة نيفا} و{روح العصر الفضي}.

تقول الناقدة روبيرتا ريدر: {تجذب  القصائد الأولى عدداً أكبر من المعجبين، بالنسبة إلى أخماتوفا، كانت قادرةً على التعبير عن طيف واسع من المشاعر التي تعنى بتجربة العشق. من لحظة اللقاء المملوءة بالحذر والخجل، إلى الحب العنيف الذي قد يترافق مع الكراهية، وعلى نحوٍّ ما عبَّرت عن الحب العنيف المدمِّر، أو الانفصال الكلِّي}.

لعنة القمع

بعد الحرب العالمية الأولى ظهرت المجموعة الثالثة للشاعرة «السرب الأبيض» (1917) لكنّ القراء والنقّاد لم يستقبلوها كما توقعت، ولعلّ أحداث تلك السنة العاصفة كانت وراء التعتيم والإهمال الذي طالَ المجموعة الشعرية.

 كانت الشعوب منهمكة بأحداث الحرب العالمية وتداعياتها وحصلت الثورة البولشفية الروسية فبدلت مسار الثقافة والحياة. قالت أخماتوفا: «شخصيا أعتقد أن هذه المجموعة ولدت في ظروف أشد قساوة، فحتى طرق المواصلات انقطعت في تلك الفترة، وكان من الصعب إيصال أي نسخة منها إلى موسكو، فوزعت في (بيتروغراد) فقط. حينها أغلقت الصحف والمجلات».

 

لم تمتثل أخماتوفا لـ{الواقعية الاشتراكية}، ولم تستمر مع حركة {الأكمييزم} (الذروة) التي أسستها مع أوسيب ماندلشتام وزوجها غوميلوف، وهي تجمع أدبي يدعو إلى الفردية و{الفن الصافي}. اعتنقت أخماتوفا نظرية البساطة والمباشرة واعتبرت أن {الشاعر يستعمل الألفاظ نفسها التي يتفوّه بها الناس لدعوة بعضهم بعضاً الى فنجان شاي}، فبدأ شعرها يصيب شرائح واسعة من الشعب الروسي وتكرّست للحركة صفة {الذرووية}  التي وصفها ماندلشتايم بأنها {مدرسة الشعر العُضوية}، قائلا: {نحن لا نعتبر التمثّلات الكلامية كحقائق الوعي الموضوعية، فحسب، بل كأعضاء الإنسان كما القلب أو الكبد، أيضاً}.

وبعد انهيار زواجها أو علاقتها بغوميلوف، ارتبطت أخماتوفا خلال الحرب العالمية الأولى بشاعر وفنان الموزاييك بوريس أنريب الذي كتبت عنه ما لا يقل عن 34 من قصائدها، وجسدها بدوره في لوحاته التي حفظ بعضها في متاحف عالمية.

أعدم زوجها الأول سنة 1921 لنشاطاته {المعادية} للثورة، وتزوجت عالم الاشوريات فلاديمير شيليجكو ثم الباحث الأدبي نيقولاي بونين (توفي في معسكرات الأشغال الشاقة). بعد إعدام غوميليف بات وضع آنا أخماتوفا حرجاً للغاية، ودخلت سنة 1923 في صمت مطبق عن قول الشعر، إذ أدينت لـ{ميولها البورجوازية}. عانت القمع سنوات طويلة، لكنّها رفضت الذهاب إلى المنفى، كما فعل كثير من الكتاب الروس...

لم يكن الخوف يمنع أخماتوفا من الوفاء لأصدقائها الملاحقين والمعتقلين. زارت سنة 1936 صديقها الشاعر أوسيب ماندلشتام (1891-1938) في منفاه في مقاطعة فورونيغ، وكتبت قصيدة {فورونيغ}. بعد سنتين أعدم الشاعر ماندلشتام. تقول أخماتوفا في المقطع الأخير من قصيدتها:

وفي غرفة الشاعر المغضوب عليه

يتناوب الخوف مع جنيّة الشعر

والليل يسير

الليل الذي لا ينبئ بالفجر.

back to top