عبدالله بن بخيت في «مذكّرات منسيّة»... صيّاد لحظة التحوّل

نشر في 09-12-2012 | 00:01
آخر تحديث 09-12-2012 | 00:01
No Image Caption
في جديده «مذكّرات منسيّة» يمضي الأديب عبدالله بن بخيت ممتطيًا أحصنة ذاكرته في اتجاه ساحات الأمس البعيد، القريب جدًّا من وجدانه، مسترجعًا شخصيّات وأحداثًا ومناخَ عصرٍ إنساني، ومهما بلغ التصرّف في السّرد فإنّ للواقعيّة حضورًا يشغل المساحة الأكبر في أقاصيص المجموعة كافة.
لا شيء يحترف التواري والتلاشي أكثر من الزمن حيث يصير في ذمّة الماضي. وهذا الزمن يصرّ على أهله ليتواروا ويتلاشوا معه هم وما جادت به حياتهم للدّنيا. وقد يكون السّرد ذاكرة تلقي القبض على الزمن الهارب وتعيد صياغته على طريقتها كاتبةً له ولناسه عمرًا جديدًا... وطويلاً.

من أقصوصته الأولى «البطحاء» في «مذكّرات منسيّة» يقدّم الكاتب، الراوي بضمير المتكلّم، الحاضر شخصيّة رئيسة في النّص، نموذجين بشريّين في زمن بدأ يخرج جلْدِه القديم: «حزام» و{هاشم» وكلاهما صاحب دكّان. هاشم شابّ في أوائل العشرين من عمره «يحبّ البيبسي والعلوك، وصور النساء»... بينما حزام رجل هادئ، خبير في شؤون الجنّ وسائر المجهولات... وهو بالنسبة إلى نفسه وإلى الكثيرين العالم الذي لا يترك علامة استفهام بلا جواب يمحوها، إلى أن جاء أحدهم وأعلن أمامه أنّ أصل الإنسان قرد. وقد تسبّب «دارون» بانهيار مملكة العالم المصدوم، بعدما أرسل الراوي ومعه عشرة ريالات ليشتري له قردًا من البطحاء، وعاد مع رجل طاعن في البشاعة ضرب حزام بغضب وانتهت الحكاية بنقله إلى المستشفى وإقفال الدكّان.

يتبيّن أنّ بن بخيت يريد رسم الإنسان في زمن التحوّل، تحديدًا إنسان مجتمعه، فالناس، دائمًا، قسمان: واحد يطاوع العصر ويترك الحريّة لعقله ووجدانه ليرتديا الحياة الجديدة، وآخر يبقى وفيًّا لأمسه، ويعتبر مجاراة الحياة خيانة للماضي المقدّس بكلّ ما فيه، وواضح من نهاية الأقصوصة أنّ الحياة هي التي تنتصر، فحزام قتله قرد «دارون»، وبمعنى آخر، قتلته الخرافة المتمثّلة بذلك الرجل المجنون الذي لم يكن بيّاع قرود إنّما هو بالمعنى الرمزيّ اليد التي تسدل الستار على زمن يتنفّس برئة الرّمل.

زمن الخرافة

في أقصوصة «القرينين» يعود بن بخيت إلى زمن الخرافة وتتحوّل «السحلية» محورًا للسّرد. والسحلية: «كائن غريب، حجمها أقلّ من شبر... تعيش في الخرائب وشقوق الحيطان في البيوت الطينيّة القديمة»، ويعتقد الناس أنّها جنيّة لبست هذا الشكل. واستنادًا إلى ما يجعل حياة السحلية خطًّا أحمر لجأ الكاتب / الراوي، صغيرًا، إلى الضغط على أمّه لإعطائه المال وإلاّ أنهى حياة ذلك الكائن المحروس برهبة الحكاية: «كنت أراهن على رعب أمّي لا على شجاعتي».

 ومن ابتزاز إلى آخر، تصعّد السّرد إلى أن قتل الولد السحلية التي: «لم تعرف أن الذي كان يحميها هو حفنة من الخرافات، لا علاقة لها بالطيبة واحترام الطبيعة واحترام مخلوقات الله». وكان ترحّم الوالدة لافتًا: «رحمها الله وأسكنها جنّات النعيم».

لا يريد بن بخيت اختصار الماضي، ولو أنّه يوحي بذلك بكتابته الأقصوصة لا الرواية، إنّما هو يرغب في نقله كاملاً إلينا من خلال الطقس المشترك في أقاصيص الكتاب كافة، التي تبدو رواية، غير أنّها مجزّأة، ويغيب الرابط فيها بين الجزء والآخر. فالأمّ التي ترجو السماء للسحلية لبست شخصيّة بعيدة من «حزام»، وهما وجهان لزمن واحد، فضلاً عن أنّ نهاية السّرد بموت السحلية تحمل الدلالة نفسها لتقاعد حزام القسريّ. فالزمن الآتي تنسحب منه الخرافة لصالح العلم الذي يتصدّر المشهد، ويؤسّس لإنسان جديد يمثّله ولد يقتل السحلية ويدير ظهره لتاريخ سئم الوقوف بين جَمَل وخيمة.

تنويع السرد

يحاول بن بخيت التنويع، على مستوى اختيار مواضيع السّرد، فأقصوصة «شارع الخزان» بطلها فنّان يحيي سهرة غنائيّة. وليس للمطرب البطل سوى فرقة موسيقيّة واحدة: «تُعرف بفرقة التلفزيون... كلّ من يهتمّ بالفنّ يعرف أنّ تلك الفرقة كانت على خصومة شديدة مع فنّاننا». ولم تفوّت هذه الفرقة فرصة لتحرج الفنّان على خشبة المسرح، وتغضبه في حين أنّ أعضاءها يلتزمون الهدوء، وتطوّرت الأمور إلى أن صرخ صاحب الصوت الرخيم: «يا حيوانات!!... / كان فنّاننا قد قالها بعد أن فتح المايك، فأضحت القضيّة خارج التهامس الغاضب بين الفنّان وبين الفرقة». ودفع الثمن «أبو مرزوق»، غير المتضامن مع الفرقة، بعدما أخذ الفنّان المرواس من يديه، وضربه به على جمجمته لتنشعر، ولولا تدخّل الجمهور مات أبو مرزوق بين يدي ضاربه. «فحسب محضر الشرطة الذي تناقلت الشائعات محتوياته أنّ الجمجمة انشعرت قبل أن ينكسر المرواس»... ولم يقصّر بن بخيت في الشدّ على يد نصّه ليكون مثل نصوص المجموعة الأخرى شاهدًا على زمن التحوّل، وتسعفه خضرمته إذ هو ابن زمنين بامتياز: زمن يستوطن ذاكرته، وزمن جديد يدعوه إليه بإلحاح، إلاّ أنّه لا يهتمّ بتصوير الزمن بقدر ما يشغله تصوير اللحظة التحوّليّة وتجسيدها.

في هذا السياق أيضًا، ترد حكاية «استراحة بنبان»، أو استراحة «شويمطة» التي أسّسها: «مجموعة من كبار السنّ، أصغر واحد فيهم لا يقلّ عمره عن خمس وستّين سنة». وكثيرون من هؤلاء يعرفون عددًا لا بأس به من مطارح الدنيا لأنّهم سافروا كثيرًا، لا سيّما إلى «بانكوك» وأعجبوا بكلّ جديد: «خصوصًا المساج على أيدي الشابات التايلنديّات»... وما استراحة شويمطة سوى مؤسّسة تضمّ لجنة حكم تنتخب ملكات الجمال، وتعطي التاج لـ{أليسّا» العربيّة، لا لِـ{جنيفر لوبيز»، بعيدًا من «أيّ ميول إقليميّة أو قوميّة... فلا فرق بين عربيّة وأعجميّة إلاّ بما حباها الله من جمال». وفي هذه الحكاية يحاول بن بخيت التوسّع في اصطياد اللحظة التحوّليّة، إذ فتح ملفّ الغرب، ليظهر أنّ العرب يتغيّرون، وأنّ من كان يظنّ نهاية الدنيا حيث تنتهي قريته أو مدينته بدأ ينتسب إلى القرية الكونيّة التي هي العالم بأسره.

شاهد عبدالله بن بخيت مجتمعه يصير إلى حقيقة جديدة، فكان قلمه آلة تصوير صادقة لواقع عصفت به رياح غير التي تحمل الرّمل. واستجاب لها بفعل قوّة الحياة التي تغيّر كلّ شيء بمساعدة دائمة تتلقّاها من الوقت، فأتى كتاب «مذكّرات منسيّة» مجموعة حقائق اعترض بن بخيت طريقها إلى مغارة النسيان ومدّ لها على بياض الورق أعمارًا طويلة.

back to top