جوزيف دعبول في البحر وردة الرؤيا... أمانة في نقل غموض الواقع الى الرؤيا

نشر في 16-06-2011 | 00:01
آخر تحديث 16-06-2011 | 00:01
No Image Caption
يحلو للشعر الحديث، في أوقات كثيرة، حشد الرموز والصور وتعطيل القنوات المعنوية في ما بينها، والإفساح في المجال واسعاً للتأويل ليصير النص ملك قارئه، إلى حدّ ما، الذي يذهب إليه سالكاً دروب المعاني التي يرتئيها، شاعراً بما تمليه عليه قراءته الخاصة، وكأنّ صاحب النص الأول يحترف الحضور في غيابه، ويخشى أن يقول ما يريد قوله فيترك للمتلقّي أن يقول عنه بشجاعة، والأرجح أنّ المتلقّي، في هذه الحال، يكون بعيداً جداً عن ضفّة المعاني التي يقف عليها المُرسِل.

في باكورته الشعرية «البحر وردة الرؤيا»، يفتح جوزف دعبول نافذته ويطلّ على لغة يحاولها لغة خاصة تشبهه، تقول ما عنده من ضباب بوضوح الضباب لا بوضوح الزّرقة في سماء صيف. من الإهداء الأوّل: «إلى أبي النبع في صحراء الغياب/ وأمّي الأرض في صحراء الحضور/ إلى إخوتي: مطر أخضر/ إلى حبيبتي الشمس وأبنائي النجوم»، يكوّن القارئ شبه بوصلة ترسم له بعضاً من ملامح الطريق إلى نصوص دعبول. فالصراع واضح في لعبة جمع الأضداد، غير أنّ المنطق، بالمعنى التقليدي، غائب ليحلّ محلّه ما يعادل اللامنطق فكيف لأبوّة النبع ولأمومة الأرض المنتميتين إلى عقم الصحراء غياباً وحضوراً، أن تنجبا المطر الأخضر إخوة لشاعر، هو ابن العقم أيضاً، وهو مُخرج أبناءَه النجوم من رحم الشمس؟

نشوة الغرق

يدير دعبول ظهره للدنيا ويقفز إلى البحر موعوداً بوردة، يُطلعها ملحُه، ويكون عطرها دليله إلى الحقيقة: «البحر وردة الرؤيا/ حطّ على موجة/ واشرب نبيذها»، أيّ نبيذ يريده الشاعر؟ هل هو نبيذ المغامرة الذي يقود إلى نشوة الغرق؟ أم هو الزبد المعادل حليب الأمّ المتوارية في صحراء الحضور؟ ويستمرّ دعبول في خطواته الأولى مستحضراً الرموز قبائل قبائل في حين أن المعاني تئن تحت ضغط الرمزية الحرة إلى حدّ رسم المشهد بظلال متعدّدة ومتعارضة: «الكلب يعظ العذارى/ وحفلة الصيد لم تنتهِ/ البدايات صقيع الصباح/ والمرايا أجنة الرمال، يميل قوس قزح نحو القطبين،/ وينهدم شعاع الشمس/ القمر رأس الطفل المقدس/ ولُوط عمود من غبار... بيتي مسرح للساحرات الملهمات/ ومشى يبتدئ النشيد يموت الراعي»...

يمدّ دعبول يده إلى قاموس المقدس، ويحاول من خلاله إنجاز الإضافات الممكنة إلى معانيه المبتورة، فلا صورة تتّصل بأختها، إنما قفز من دلالة إلى دلالة، وكأن الشاعر يلهو بالتشظّي، ويرتاح للغموض الذي لا يفسّره سوى الغموض، ويهدف إلى بناء نصّي يعتمد اللاانسجام، إنه البناء العبثي حيث تغتال الكلمة كلمة سبقتها أو أتت بعدها. كلمات دعبول مشحونة بطاقات إيحائية كبيرة غير أنّها تثأر من بعضها البعض، فلا تتعاون بهدف إيصال الرسالة، ويروق لها التموضع في الوحدة، كلّ كلمة تبني مملكتها منفردة، الأمر الذي يجعل النص متماسكاً بتفكّكه حين يكون التفكّك مقصوداً وغاية قائمة بذاتها.

محبرة متألّمة

ولا شكّ في أن دعبول يغمس ريشته القاتمة في محبرة متألّمة يتقاسمها الانتظار والشك والرفض والحنين والشعور بالعراء الوجودي... ففي قصيدة «قراءات»، يتقمّص الشاعر فتاة الانتظار على محطة يصل قطارها في العاشرة: «لم يقتنِ ساعة يد/ دفقٌ أبيض/ دفقٌ أسود/ حدقتاها تشعان لرؤية طير أسو / على ظهره غابة مليئة بفراشات مقصوصة الأجنحة.../ تهرَم فجأة وتجد نفسها تنتظر القطار». الشاعر المقنّع بوجه تلك الفتاة هو الذي يحيا خارج الزمن، وفي روحِه يُغمد الأبيض أنيابه كما الأسود، وهو الباحث أبداً عن جناح سَلِمَ من مقصّ الأقدار السوداء، وهو الذي جاد عليه الانتظار بالشيب المفاجئ، في حين أن القطار المنتظر هو من فصيلة القطارات التي لا تأتي ولا يمكن النزول عن صليب انتظارها الثقيل.

وللشك في مرايا دعبول إقامة تحترف ابتداع الانحراف عن كلّ ما هو مسلّم به، فالشاعر اللاجئ إلى عملية نسف للوجود منظمة على طريقته ينطلق من الشك في كلّ شيء وحتى في الشاعر الذي فيه، ففي قصيدة «الشاعر الذي ظنّ أنه شاعر» يروي خيبة صاحب القصيدة الذي خَدَعَه الأزرق: «يرتدي معطفه الأزرق/ يضع على عينيه نظارتيه الزرقاوين/ يرى الورقة التي يودّ الكتابة عليها سماء زرقاء»...

وسرعان ما تعود الورقة بيضاء ضجرة، وينطلق باحثاً عن سحابة تمطر وحيا فلا يجدها في قنطرة أو قصبة تتمايل أو كلب ينبح أو ظله المنكسر... وحين يضيق به الواقع يلتجئ إلى الحلم الذي لا يمنحه تأشيرة الدخول إلى عالم الفرح، ولا يساعده على إخراج حديقته اللغوية من لعنة السوريالية، فيستمر حياً بوجه ينهشه الغبار، مبحراً في مراياه العتيقة: «كفّاه مالحتان/ يحدق باللامرئي/ بالأشجار التي تصهل/ والجبال العارية.../ ملح نازفٌ من غاباته/ برغبة جامحة يصعد من ذاته إلى ذاته/ يلج رئات جباله العالية»...

تاج الشك

ودعبول المعتمر تاج الشك، شكّه بوصلة لا تدلّ إلا على جزر تعلو فيها أشجار هاربة من التراب الذي يدعوها إلى فيء مألوف وعادي لتؤلف رفْضَها في عُزلة وغربة. فأبوه حزين مثل عصفور يرفض الغناء حرّا ويرفض الحياة في الأقفاص، كذلك يرفض الإقامة في ديار البشر ولذلك: «جرى إلى البحر وغاص حتى القاع، وقيل تزوّجته جنيّة وأنجبت له، ولما عاد إلى القرية استقبلته بالأهازيج، فطلب ماء ومات. وقيل تعرّى أمام الجمع ودخل الجبل، وقيل إنّه لم يكن، لكنّ أمّي تخيلته»... هذا الرفض المدروس، والآتي عن سابق تصوّر وتصميم، يعلن رغبة صاحبه في الاستقالة من عباءة اللحم والدم، وفي الانتساب إلى الخارق، وليس الزواج من جنّيته والعراء والدخول إلى الجبل... سوى رفض للوجود وعملية انقضاض عليه.

أما الحنين فهو يئنّ في أعماق دعبول وقلمه، اللذين يَنشدان طفولة بدت إلى حدّ ما مفقودة، وأهلاً لم يكن الارتواء منهم كافياً، ووطناً غائباً تصادر محلّه جغرافيات مؤلمة، وإلهاً لم يعد واضحاً ومتماسكاً ومقنعاً: «قيل لكم (إن لم تعودوا أطفالاً فلن تدخلوا الجنة)/ وأنا أزيد (إن لم تعودوا كباراً أيضاً فلن تدخلوا الجنة).../ تعلموا قراءة ما بعد العهد الجديد/ فالمنازل القديمة تهدّمت وأسد الصحراء يزمجر». والحنين عند دعبول متحوّل، إذ يلحظه القارئ حنيناً إلى ما سيأتي على بساط الحلم والرغبة غدا لا حنيناً مباشراً إلى ما كان يوماً ما على بساط الأمس والواقع.

ارتداء العراء

وكيفما كتب دعبول يظهر مرتدياً عراءه الوجودي، وحيداً متفرّغاً للهدم والحلم، كافراً بكلّ شيء إلا بكفره، متوكئاً على عصا سوداء، شارباً ماء يقطره غيم وهميّ، آكلا خبزاً حراً يزيده جوعاً: «أخوض في الوحل، أبتني خيمة، وحديقة، وأنحت تمثالاً يشبهني، أحيكه، أسامره، أظلّله بالشمس/ وأنا في الخيمة السوداء وحيد، مع أشباحي، تلسعني الحشرات»...

وينهي دعبول النص الأخير في جديده قائلاً: متاهة، وتنبع من ينابيع الرؤيا، أشجار الفردوس الجميل، حمامات وبلور ومحار،/ والضفاف البعيدة تترقّب الولادة، من ضوء، من ليل، من تراب، الملح يكتب شوارده، وفي هذه الخاتمة ما يثبت أنّ صاحب النصوص واحد فكراً وشعوراً، حتى أنّ بعض النصوص يتداخل مع البعض الآخر في فضاء نَصّي مشترك. وقد راهن دعبول من الكلمة الأولى إلى الكلمة الأخيرة على منّ الرؤيا وسلواها وكان أميناً في نقل غموض الواقع إلى رؤياه وقال ما عنده من شوارد... مالحة.

back to top