الجمال الشعري عند خالد الدوسري

نشر في 19-02-2010
آخر تحديث 19-02-2010 | 00:00
 محمد مهاوش الظفيري قالت العرب: «الشعر أنفذ من السحر». وقال الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: «إن من البيان لسحراً». هذا التعاطي مع الشعر يدل على فهم عميق لقيمته الجمالية، فليس كل كلام شعراً، بينما كل شعر كلام، من هذا المنحى ندرك أن الشعر النابع من قناعات مسبقة، المرتكز على تعميم مضامين معينة لا يعدّ شعراً بالمعنى الحقيق بهذه الكلمة، بل الشعر عبارة عن إيهام وتوّهم، حالة تنطلق من رؤى فردية خاصة بكل شاعر دون سواه من الشعراء، لأن النوع الأول نظم، بينما النوع الآخر شعر، فالنظم مشروع لغوي جامد لا حراك فيه، أما الشعر فيقوم على تحريك العواطف وإثارة الحواس، وذلك عن طريق الانغماس في الجمال، باعتبار أن الشعر نشاط لغوي هدفه الوصول إلى الجمال، لأن الجمال هو السحر المنشود من المشروع الشعري، وهذا ما عنته العرب، وما رمى إليه الرسول الكريم في كلامه السابق.

سأركز في هذه الورقة المعدّة كمقدمة لديوان الشاعر الإماراتي خالد الدوسري، الذي يحمل اسم «نهاية السديم» معتمداً على جانب الجمال الشعري في بعض نصوص الشاعر، إذ إن الجمال يبدو جليّاً منذ الوهلة الأولى، وذلك من خلال اختيار الشاعر لاسم مجموعته الشعرية «نهاية السديم».

ليس للجمال ضابط فنيّ معين، بل هو شعلة حرارية أو ومضة ضوئية تسري بين الشاعر والمتلقي عبر العمل المكتوب، فـ«نهاية السديم» كلمتان تختصران الجمال لأن كلتيهما إيحاء بالتلاشي والدخول إلى عالم الملكوت، وفيهما بعث وانبعاث، بعث للروح المسكونة بالجمال، وانبعاث وتطلع إلى الجمال المنشود في العمل الشعري.

الجمال لا يعتمد على جنوح الخيال ولا يرتكز على قوة المعنى، إنه مزيج من هذا وذاك، إنه باختصار ناتج عن حرارة المشاعر وشوق العاطفة ولهفة العاشق التي نشعر بها من خلال الكلمات، وتنتقل من الكاتب إلى القارئ، دون إعداد من الكاتب أو الشاعر، وبلا حول أو قوة من المتلقي.

لنستمع إليه، وهو يقول في قصيدة «دمع الكواكب»:

الشمس تولد بالضيا في محياك

وتموت لا من غاب عنها شعاعك

وشلون تبغاني أواعدك وانساك

وأنت المجرة تختفي في وداعك

يقول أساتذة علم الجمال: «الجمال الطبيعي شيء جميل، لكن الجمال الفني تصوير جميل لشيء»، وهذا ما عناه الشاعر العربي المهجري ايليا أبو ماضي حينما قال: «كن جميلاً ترى الوجودَ جميلا»، والشاعر خالد الدوسري هنا تصوّر أن الشمس تموت عند غياب محبوبته، أو أن المجرة تختفي، أو كما يقول في نفس هذه القصيدة في بيت آخر:

تصادمت كل الكواكب بفرقاك

شفت انهيار الكون لحظة وداعك

فهذه المعاني البشعة التي رسمها لنا الشاعر عبر هذه الأبيات، عكست لنا الجمال الفني لدى الشاعر، إذ قدّم لنا هذه المعاني المنفرة والنافرة في إطار فني جميل، أكسب كلماتها رغم ما بها من أنين وتوجع، حرارة الحياة ودفء المشاعر وعذوبة الجمال.

ثم يقول في نص آخر بعنوان: «أغلى ما على الأرض» وهو يوجه الخطاب الشعري فيه إلى أمه، التي تمر بظروف معينة كما هو مفهوم من سياق الأبيات:

لا باس يا أغلى ما على الأرض لا باس

لا باس يا انجوم السما.. يا قمرها

سلامتك تشرى يا يمه.. بالألماس

وش فايدة عيني لو أقفى نظرها

هنا تتضح جدلية العلاقة بين العاطفة والصور الشعرية في النص الشعري، إذ إن الصورة تعتمد على محاولة رصد الحياة في تلخيص الواقع، بينما العاطفة تقوم على إبراز دور المعاناة من خلال الانفعال. والشاعر هنا صوّر لنا أمه على أنها «نجوم السما» ثم صورها بـ «القمر» كما أنه ذهب إلى أن «السلامة تشترى» وكذلك في قوله عن عينه «أقفى نظرها»، وهذه صور شعرية تعكس لنا واقع الشاعر وموقفه الذاتي من أمه، غير أنها تذوب في خضم الشعور بالمأساة والألم، ونتفاعل مع الموقف من خلال انفعالنا نحن كقراء وكمتابعين مع هذا الموقف الإنساني من الشاعر، فالعاطفة هنا أقوى بكثير من الصور الشعرية التي اعتمد عليها الشاعر، وهذه المسافة التي نحاول عبورها عبر هذه الجدلية، تمثل لنا الجمال الفني الذي يشدنا إلى النص، ويمنحنا هذه الحرارة العاطفية والنفسية عن طريق قراءتنا لهذا الشعر.

يواصل الشاعر إبحاره في هذا المجال، لكنه هذه المرة يمرره لنا في قالب شعري مرتبط بالحب والموقف من المرأة، إذ يقول في قصيدة «لبّا قليبك» التي عكست لنا العلاقة الحميمية العاطفية التي تربط الشاعر بمحبوبته عبر هذا النسق الشعري الجميل:

لبّا قليبك يا هوى الروح والبال

لبّا العيون اللي ذبحني هدبها

ثم يقول في هذا النص نفسه كذلك:

ولبّا الخدود اللي بها حبة الخال

تجهر عيون القلب لا من رقبها

ولبّا الشفايف ذيك والريق لي حال

سكر نبات وشهد صافي من «أبها»

فمفردة «لبّا» التي تكررت أكثر من مرة، سواء في هذين البيتين أو البيت السابق، لها إيقاع نغمي جميل وهادئ، ولها وقع شفاف في النفس، وأثر عميق في قلب العاشق المتيم، وتدل على مدى تأصل العلاقة الإنسانية العاطفية بين المحبين، هذه العلاقة التي لمسناها من هذا التوظيف، عكست لنا الجمال الفني المنشود شعريّاً وإنسانيّاً، وعلى هذا الأساس يمكننا القول إنه يقع في الخطأ كل مَن يعتقد أن بالإمكان اقتناص الومضة العاطفية في النص من خلال الوقوف على صور شعرية معينة، لأن الصورة الشعرية تعبر عن فكرة، بينما العاطفة نتاج لانفعالات الشاعر ومدى تأثر المتلقي بهذه الانفعالات، كما أن الصورة الشعرية أشبه ما تكون بالمشهد الجامد، مقارنة بالعاطفة التي تُعدّ متموجة وغير مستقرة، إذ تعلو وتهبط في النص، وكأنها عالم مصغر لترددات نفس الشاعر داخل النص، وهذه العاطفة تنساب بسهولة ويسر من الشاعر إلى المتلقي، عبر نافذة النص الشعري الذي يعتبر نقطة الوصل والالتقاء بين الطرفين، وهذا ما نلمسه في كلمات الشاعر المعبرة عن هذا التوجه الجمالي في ما يكتب.

يمتد المشهد الجمالي مع الشاعر، وذلك عندما ينقلنا الشاعر من التطلع إلى الجمال والنظر إليه في محراب الحب، إلى الإقبال على محبوبته للامتزاج بها، وللتعبير لها عن شوقه وهيامه، إذ يقول :

جيتك وأنا قلبي للأشواق مدهال

شوقي كما نار وضلوعي حطبها

الشعر ليس تفسيراً للعالم، بل هو اكتشاف لهذا العالم وفهم لأبعاده. ونحن من هذا البيت نستشف اندفاع الشاعر نحو محبوبته، فهذه الاندفاعية فيها من تصرفات الأطفال الشيء الكثير، وأغلب تصرفات الأطفال قائمة على السذاجة، والسذاجة في الشعر مطلوبة، بل هي أمر ضروري وملحّ، ولا أعني بالسذاجة هنا الغباء كما هو واضح من الاستعمال الظاهري لهذه الكلمة، وإنما أعني بها الطيبة الطفولية التي تكون غالبة على أخلاقيات العاشقين وتصرفات المحبين، وهذه الحالة كالشعرة الدقيقة التي ندركها بإحساسنا ولا نكاد نراها إلا من خلال ضمائرنا وقلوبنا.

إن الشعر الجيد، ليس ذلك الشعر الذي يقنعنا أصحابه بما يقولون، بل هو ذلك الشعر الذي يمنحنا قوة التخيل ويزرع فينا شعلة الخيال والتأمل، وهذا ما عناه حازم القرطاجي، المتوفى في القرن السابع الهجري، عندما فرق بين الخطابة والشعر، وقرَّر أن الخطابة تعتمد على الإقناع بينما الشعر يقوم على التخيل. وهذا التصوّر الجمالي للشعر لمسناه في هذا الديوان الذي يحمل اسم «نهاية السديم» للشاعر الإماراتي خالد الدوسري، الذي فتح لنا هذه النافذة كي نستشرف من خلالها الجمال الشعري لديه عبر هذه المجموعة، التي نتمنى له التوفيق فيها، وفي أعماله الشعرية والأدبية المقبلة إن شاء الله تعالى.

back to top