الذاكرة الشعبية بين الحساب والعقاب

نشر في 25-06-2010
آخر تحديث 25-06-2010 | 00:00
في هذا المكان سأعمل على محاسبة الموروث الشعري، انطلاقاً مما أختزله من وعي ودراية في هذا الموضوع، ما يمكنني من القدرة على إصدار الحكم النافذ أو شبه النافذ في هذا الشأن، وذلك من خلال ما أراه وأعتقده.
 محمد مهاوش الظفيري الجلوس منفرداً مع الذات، بعيداً عن ثقافة الجموع، باعتبار أن الاختلاط المفرط فيه مع المجتمع أشبه ما يكون بالحماقة، مع العلم أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، لكن الإفراط في هذه النزعة يقابل التفريط أي ترك الناس والابتعاد عنهم نهائياً.

في هذا المكان سأعمل على محاسبة الموروث الشعري، انطلاقاً مما أختزله من وعي ودراية في هذا الموضوع، ما يمكنني من القدرة على إصدار الحكم النافذ أو شبه النافذ في هذا الشأن، وذلك من خلال ما أراه وأعتقده، لاسيما في ما يخص بعض الأبيات التي ذاعت شهرتها بين الناس، وهي لا تمت للشعر بأي صلة، اللهم إلا بالوزن والقافية.

كما أنه في المقابل، هناك أبيات أو بيت من الشعر، يحمل رؤى فلسفية ومعاني شعرية لافتة للإعجاب، غير أنها مرت مرور الكرام.

يقول الشاعر الفارس تركي ابن حميد:

كل القلم من كتبنا للقراطيس

وإركابنا من كثر الأقران تومي

في هذا البيت نظرة وجودية للحياة، تنبع من إحساس الشاعر بحتمية الفناء، فهو يعلن في هذا البيت أننا مهما فعلنا وسعينا من أجل البناء والإقامة فمصيرنا إلى زوال، لأننا نرى أقراننا يسيرون إلى الموت، وأننا وراءهم لا محالة سائرون، وكما يقول قس بن ساعدة الإيادي:

لما رأيت مورداً

للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها

نمضي الأصاغر والأكابر

أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر

وقد تحدثت عن هذا البيت، وعن القصيدة كلها في قراءة نقدية قدمتها للشاعر تركي ابن حميد، غير أنني حينما أجلس في بعض المجالس المهتمة بالشعر لا أراهم يهتمون بهذا البيت، رغم ارتباطه الكبير بالخيال والتأمل، إذ أراهم يهتمون بأبيات أخرى للشاعر الفارس تركي ابن حميد كقوله:

وأخير منهن ركعتينٍ بالأسحار

لا طاب نوم اللي حياته خساره

وهذا البيت ضمن قصيدة أوصى بها ابنه، إذ يقول في عدد من أبياتها:

ياما أحلا يا عبيد في وقت الأسفار

جذب الفراش وشب ضو المناره

مع دلة تجذا على واهج النار

ونجر اليا حرك تزايد عباره

النجر دق وجاوبه كل مرار

مالفى الملفوف من دون جاره

وأخير منهن ركعتين بالاسحار

لاطاب نوم اللي حياته خساره

وهذا النوع من الشعر كان رائجاً في زمانه، وقد مثّل العقلية النمطية للمجتمع المحافظ، ونحن كمهتمين بهذا المجال لا بد أن تكون لنا نظرتنا الخاصة الخاضعة لوعينا، وعلى هذا الأساس فإن المتأمل في البيت الأول والأبيات الأخرى في هذه المقطوعة الشعرية يجد الفرق الكبير والواضح بين بيت شعري واحد قادر على فتح نافذة في العقل تمنح المرء فرصة تأمل الحياة وتخيّل الموقف من علاقة الإنسان بالزمن، وما بين أبيات ليس فيها سوى الدلة والنجر والفراش والصلاة، وقد صيغت بطريقة نظمية، وهذا مرده عائد إلى أن النفس العربية عامة والبدوية المحافظة بشكل خاص تحب ترسيخ معاني الخير والفضيلة والعمل الصالح، وهذه الأمور رغم أهميتها في الحياة لا تمت إلى الفن والأدب والشعر على وجه الخصوص بصلة، وهي أشبه ما تكون بقصيدة صقر النصافي التي أوصى بها أولاده، إذ كان كل من الشاعرين يمارس دور الحكيم الناصح والفيلسوف المتأمل في أمور الحياة والدنيا والعلاقات الاجتماعية بين الناس، ولم يُقدَّم أيٌّ منهما على أنه قدم قصيدة شعرية، بقدر ما قدم كلاما منظوما موزونا دالا على معانٍ عقلية جاءت في قالب منطقي محكوم الصياغة بشكل جيد.

back to top