إبراهيم الخالدي... يغرق في بحر المجتث
منذ أن تفتحت مداركي العروضية، وأحسست أنني صرت ماهراً في هذا المجال، أو بالأحرى وصلت حدّاً يمكنني فيه عقد المقارنات وطرح الأسئلة والإجابة عنها في ما بعد، أدركت أن هناك بحوراً خليلية غير موجودة في الشعر النبطي، وهي ما أسماها الأستاذ إبراهيم الخالدي "البحور المهملة نبطيا"❊.
هذه البحور كما كنت أعرفها: الكامل والخفيف والمقتضب والمنسرح والمضارع، وهناك بحر آخر سأذكره في آخر هذا الموضوع توصلت إليه قبل أقل من سنتين من الآن، غير أن الأستاذ الكريم أضاف بحرا جديدا بالنسبة لي على هذه البحور وهو بحر المجتث الذي تفاعيله (مستفع لن/ فاعلاتن) وهنا أصبت بالصدمة والذهول، وبدأت أفكر في كلام الباحث الجليل، إذ إنني كنت أرى أن المجتث موجود في الشعر النبطي، وكنت أعتقد أن هذه الأبيات على هذا البحر.ياطير يا خافق الريشبلغ سلامـي وثنـهثنه على أبو عكاريشاللي سبى العقل فنهأبو عيون مرا يشمن شافهـن يذبحنـهوأن تفاعيل هذه الأبيات كالتالي (مستفع لن/ فاعلاتن) في كلا الشطرين مع زيادة حرف في خواتيم الأشطر الأولى من كل بيت، وقد أشار الأستاذ ابراهيم في نفس الكتاب ص124 الى أن أمثال هذه الأبيات من مجزوءات البحر البسيط (الهجيني كما في الشعر النبطي)، ولمن أراد الاستفادة أكثر فليعد الى كتاب المؤلف.غير ان هذا الكلام الذي صدر من رجل يعلم ما يقول ويدرك ماذا يفعل، جعلني أعيد التفكير في قناعتي بشأن هذه المسألة وأدقق جيدًا في ما قال هذا الباحث الكريم، لاسيما أن هذا الرأي صادر من رجل تشهد له أبحاثه وكتاباته في مجال الشعر النبطي.رجعت الى تفاعيل البحور المذكورة، وكان رأيي عن "الكامل" يتوافق مع الأستاذ الخالدي، كما أن المنسرح والمقتضب بحران ثقيلان على اللسان العامي، لكنني وجدت نقطة التقاء بين البحور وهي الخفيف والمضارع والمجتث والمنسرح والمقتضب، إذ إن تفاعيل هذه البحور هي كما يلي الخفيف: فاعلاتن/ مستفع لن/ فاعلاتن. المضارع: مفاعيلن/ فاع لاتن . المجتث: مستفع لن/ فاعلاتن. المنسرح: مستفعلن/ مفعولات/ مستفعلن. المقتضب : مفعولات / مستفعلن / مستفعلن.لقد كان تبرير الخالدي بشأن هذه المسألة منطقيّا جدّا، لكن وكما قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: أبى الله أن يتم إلا كتابه، حيث أرى أنه لم ينتبه لنقطة محورية بشأن هذا الموضوع في تصوري المتواضع، إذ إن عدم وجود كل من الخفيف والمجتث والمضارع والمنسرح والمقتضب ضمن أوزان الشعر النبطي، يعود إلى أن هذه البحور تشتمل على وجود وتد مفروق فيها، وقد أشار الخالدي في معرض كلامه عن التفاعيل ص 31 الى "أن الشعر العامي لا يحتوي على أوتاد مفروقة" لكنه لم يوضح للقراء أن سبب استبعاد هذا البحر وما سواه من بحور أخرى مذكورة هنا لسبب هذا النقص، وهو خلو الشعر النبطي من الأوتاد المفروقة. والوتد هو المقطع المكون من ثلاثة أحرف، فإن كان الساكن هو الحرف الثالث سُمّيَ بالوتد المجموع كــ (فعو- علن) في (فعولن- فاعلن ) على سبيل المثال، وإن كان الساكن هو الحرف الثاني سُمّيَ بالوتد المفروق كــ(تفْع- فاع- لات) في (مستفع لن- فاع لاتن- مفعولات)، وكما أن اللهجة العامية قد تخلصت من السبب الثقيل وتمسكت بالسبب الخفيف، والسبب هو المقطع المكون من حرفين، فإن كان الحرفان متحركين سُمّيَ بالسبب الثقيل، كـ (مُتَ) في (مُتَفاعلن)، وإن كان الحرف الأول متحركًا والثاني ساكنًا سُمّيَ بالسبب الخفيف، كــ (مسْ- فا) في (مستفعلن- فاعلن )، فما دام اللسان العامي أهمل التعامل شعرّا بالسبب الثقيل كما حصل مع البحر الكامل، فإنه كذلك أهمل التعامل بالوتد المفروق، وبناء على هذا الإهمال لم يكتب الشاعر النبطي قصائده على هذه البحور التي هي المجتث والمضارع والخفيف والمنسرح والمقتضب، إذ إن الخفيف والمجتث يحتويان على وتد مفروق وهو الموجود في التفعيلة (مستفع لن) المكونة من سبب خفيف وهو (مسْ) ووتد مفروق وهو (تفْعِ) وسبب خفيف وهو (لن)، أما المضارع فيحتوي على وتد مفروق لكنه في (فاع لاتن) المكونة من وتد مفروق وهو (فاع) وسببين خفيفين وهما (لا- تن )، بينما يشتمل المنسرح والمقتضب على وتد مفروق، وهو الموجود في (مفعولات) حيث تتكون هذه التفعيلة من سببين خفيفين هما (مف- عو) ووتد مفروق وهو (لات).وللمعلومية أن هذه البحور التي تشترك في هذه الخاصية وهي وجود الوتد المفروق تلتقي مع بحر السريع الذي يحتوي على تفعيلة (مفعولات) كذلك، حيث تفاعيل هذا البحر هي (مستفعلن / مستفعلن/ مفعولات)، وهناك خاصية أخرى تتعلق بهذه البحور الخمسة بالإضافة إلى بحر السريع أنها ضمن دائرة عروضية واحدة اسمها المشتبه، ونستنتج من هذا الكلام أن بحور هذه الدائرة بالإجماع غير موجودة في الشعر النبطي، والتوهم الذي وقع به العديد من المهتمين في هذا المجال أنهم ظنوا أن المسحوب مأخوذ من البحر السريع، وفي الأساس أن المسحوب النبطي من أقسام البحر الهلالي، وقد تناقشت مع الدكتور غسان الحسن عن هذه النقطة، ووجدت أننا متفقان في هذا التوجه، كما أخبرني الدكتور الفاضل أن له بحثا مطولا حول مسألة الأوزان، وأنه سيتطرق الى هذه النقطة في هذه الدراسة، ولتقريب هذه النقطة فإن العديد من المهتمين بالشعر يجدون تداخلاً بين المسحوب والهلالي، إذ يقول راشد الخلاوي.من لا يحوش المرجلة في شبابهما عاد يدركها إلى صار شايبإذ من النظرة الأولى يندرج هذا البيت ضمن سياق البحر المسحوب، مع العلم أن الكثير من المتابعين للشعر يعلمون أنه ضمن قصيدة مطولة على البحر الهلالي للشاعر راشد الخلاوي، وعلى هذا الأساس تكون تفاعيل المسحوب النبطي كما يلي (عولن/ مفاعيلن/ فعولن/ فعولن) إذ حصل للتفعيلة الأولى ( فعولن خرم أو ثلم فصارت (عولن) وتكتب في بعض الأحيان (فعْلن) لهذا اعتقد بعض الناس أن وزن المسحوب (مستفعلن/ مستفعلن/ فاعلاتن) وهذا مما أحدث الخلط في هذا الموضوع.هذا ما توصلت إليه حول هذه المسألة، فإن توصل لهذا الرأي أحد قبلي، فلا أملك إلا تقديم الاعتذار له وللجميع بعد ذلك، وإن أصبت في هذا التصور فله الشكر والتوفيق، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان.* راجع طواريق النبط لإبراهيم الخالدي ص 43