الحريص... لا شرَّق... غرَّق 1-2

نشر في 30-05-2008
آخر تحديث 30-05-2008 | 00:00
No Image Caption
 محمد مهاوش الظفيري

في هذه الأبيات التي اقتطعتها من قصيدة لهذا الشاعر، تبدو رغبته في البحث عن المطر، وحث الذهن والذائقة على حد سواء، على الاستمطار، استمطار المشهد العاطفي أو استمطار رغبة الحياة والخصب الكامنة في نفس أي إنسان.

هبت جنوب وطاح برد المكاتيب

يا كثر ما هب الجنوب وذكرته

يملا حضوري من حضوره وأنا أغيب

وياما غيابي في غيابه حضرته

إن جا مطر راحت ضلوعي له شعيب

وإن راح ريح ٍطيّر اللي بذرته

جنبت لو مال عن الدمح تجنيب

من وين ما هج بجروحي شعرته

تتعدد أشكال الموجود الغائب في نصوص الشاعر سعد الحريص، كلما أوغلنا في تأمل نصوصه الشعرية، لأنه يجد لذة في التعامل مع الضمائر، خصوصا ضمائر الغياب التي تتناثر في نصوصه الشعرية بشكل ملفت للنظر، وتتعدد هذه الأشكال في كل مرة نقف فيها على نص من نصوصه الشعرية، وذلك حينما نتطرق إلى الحديث عن نماذج من قصائده التي اخترت منها الكثير، وكتبت عنها أكثر من مرة، والتي اكتمل عقدها مع «إشكالية الموقف من الشعر في البحث عن الموجود الغائب»، وكان سعد الحريص هو أنموذج الطرح الكتابي الذي تكلمت عنه في تلك الدراسة.

في هذه الأبيات التي اقتطعتها من قصيدة لهذا الشاعر، تبدو في هذه المقطوعة رغبة الشاعر في البحث عن المطر، وحث الذهن والذائقة على حد سواء، على الاستمطار، استمطار المشهد العاطفي أو استمطار رغبة الحياة والخصب الكامنة في نفس أي إنسان.

لو عدنا قليلاً إلى الوراء، ونظرنا إلى الموروث الشعبي في محاولة لفهم هذا الاستمطار، تقول أهل البادية «لا شرّقتْ غرّقتْ»، أي أن الرياح إذا جاءت شرقية «أي جنوبية»، فإنها ستجمع الغيوم ومن ثم ستغرق الأرض بالأمطار.

إن التقاسيم الجهاتية لدى أهل البادية كما فهمت من بعض كبار السن - وليس كل كبير سن يؤخذ رأيه أو يعتد بما لديه من معلومات - أن «الهواء الغربي» هو القادم من جهة الشمال، و«الهواء الشرقي» هو القادم من جهة الجنوب، أما الجهة الغربية أو الشرقية كما هي في فهمنا نحن الجيل المتعلم، إذ أن الغرب عند أهل البادية «فوق» أو «قبلة» أو «مغيب شمس»، أما الشرق فهو «حدر» أو «تحت» أو «ورا».

وللخلاص من هذا العرض البسيط، ندرك مدى رغبة الشاعر في استجلاب المطر، والمطر هو الحب والخصب والرغبة في استمرارية الحياة العاطفية، وهذا ما أوضحه الشاعر في البيت الثالث من هذه المقطوعة «إن جا مطر...» لتأكيد هذه الرغبة في البحث عن دلالات الاستمطار والمطر والحياة، فهذه الرغبة في الاستمطار في الحضور مع كل نسمة هواء جنوبية، من أجل تكثيف حال الحضور والوجود في كل الحالات الإنسانية من خلال ثنائية «الغياب والحضور»، فهنا يستشعر الشاعر بلذة العيش في الغياب، وذلك لتوارد مفردات الغياب أكثر من دلالات الحضور «ذكرته - أغيب - غيابي - راحت - راح - طيّر - جنبت - تجنيب - من وين - هج»، فهذه المفردات الموحية بالغياب والدالة عليه بشكل واضح، تأكيد على حال الموجود الغائب، إذ يتلذذ الشاعر بهذه الحال الشاعرية التي تضفي عليه عبقاً من الإحساس الشعري الفاتن القادر على استجلاب المطر واستمطار الحال الشعرية من عالم العدم، لخلق نوع من التوافق الروحي بينه وبين ذلك الغائب الغائر في نفسه.

إن هذا النص من أجمل ما قرأت لهذا الشاعر، رغم تأكيدي الدائم على تنوع حالات الجمال الشعري في نصوص الشاعر «سعد الحريص»، وما أكتبه من كتابات، ما هي إلا محاولة لفهم هذا الشعر، وسبر أغوار تلك التجربة الشاعرية لدى هذا الشاعر، من خلال التركيز على بعض النماذج الشعرية التي خطتها تجربة سعد الحريص الخاصة، عبر مساحة لا بأس بها من عمر الزمن وصولاً إلى هذا الوقت، مع رجاء وتمنٍّ مني بشكل شخصي بألا يقف هذا العطاء ولا يتوقف ذلك الإبداع من قبل الشاعر الفريد سعد الحريص، والخوف كل الخوف أن يتراجع هذا النهر أو يتغير مجراه.

back to top