التوحد الانفرادي بشكل انسيابي (1-2) عند سيدة الشعر النسائي في الساحة الشعبية

نشر في 30-01-2009
آخر تحديث 30-01-2009 | 00:00
 محمد مهاوش الظفيري بعد انتهائي من القراءة الأولية لديوان «النداوي» للشاعرة ريميه «حصة هلال»، أحسست أن هذه القراءة لا تكفي، ولابد من إعادة المحاولة برفقة القلم والدفتر، لقد كنت في البدء أحاول التقاط الصور المتعلقة بموقف الشاعرة من الرجل كعاشق وكمحبوب في قصائدها، وهي ذات الباع الطويل في التجربة الشعرية، وبينما كنت أُواصل اطلاعي على ديوانها وجدت من الأنسب لي تغيير وجهة البحث، والانتقال به من صورة الرجل في شعر المرأة إلى صورة الأنثى في ذات الشاعرة، وقد أطلقت على هذا المنحى في تجربة ريميه بعد الانتهاء من خطوطه العامة بـ«التوحد الانفرادي» ورغبتها في الخروج عن السرب النسائي في هذا الجانب، محاولاً الوقوف عند النقاط التي تنظر فيها إلى نفسها، وما هي الرؤى التي اعتمدت عليها في تعاطيها مع هذا الجانب في تجربتها الشعرية.

تحاول الشاعرة بشكل مقصود أو عفوي تغييب وجه المحبوب، وهذا الإجراء الشعري فتح المجال للتخّيل، لأنه أكسب نصوصها فرصة للانفتاح، ومنحنا متعة تصور مدى تأزم موقفها مع ذاتها ونفسها، فالشاعرة تعكس روحها التوَاقة إلى التوحّد، وهذه النصوص ما هي إلا محاولة للانفصال عن سربها (الحوّائي) العام، وهو انفصال جزئي مبسط، قائم على تكثيف الصورة الذاتية بعيداً عن المجموع، إذ تقول الشاعرة ريمية «حصة هلال»:

أنا في دمعة عيونك

ربيطٍ ما وراه... رجال

كفيّها... علام تغيم عيونٍ...

ذبحني... وعدها الختال

وعَلام تذل لي مهرة...

رسنها.. قطّع بعمري...

ليالي دارسة وحبال...

وعلام... تصيح لي ظبية...

عهدها كسّر... بقلبي

قصايد «ماضية» ونصال

هنا تحاول التوحّد مع ذاتها، باستسلامها لمسوغات أرادت لها الخروج والتحدث عنها بشكل انفصالي عن نفسها، لكنها ذات علاقة غير مباشرة بها «ربيطٍ ما وراه... رجال»، أو لفظة «مهرة» المرتبطة بالشاعرة، وتتكرر كثيراً في نصوصها الشعرية مع مفردات أخرى مثل «ظبية». وهنا نلاحظ جنوح الشاعرة إلى النأي بنفسها والابتعاد عن السرب، غير أنه ابتعاد بطريقة أفقية عن الآخر رغبة منها بالتوحد والانفراد، وهي بهذا السلوك الإجرائي تشير إلى ملمح فني وتقني يتعلق بالشاعرة، من أنها لا تريد الانقياد لأحد، وهذا واضح من خلال اعتمادها على دلالات التوحد الانفرادي لا التوحد الانعزالي البدائي، ولعلها في هذا السياق الشعري تطمح إلى توحدها مع القصيدة وكتابة الشعر، أكثر من كونها باحثة عن حب رجل:

هذي هي... أحاسيسي

حرة بك... ومجنونة

ومجنونة... وأخاذة

ثم تقول في نفس هذه القصيدة:

وهذا فيك إحساسي

حصانٍ وحشي... ومرصود

لعيون القصيد اللي

قرت بك ألف إلياذة

ها هي رغبتها بالتوحد الانفرادي تتجدد لا على مستوى ذات الشاعرة فقط بل على مستوى الأحاسيس والمشاعر، ففي حالة الجمع كانت الأحاسيس «حرة» كما تقول، وفي حال الافراد كان الإحساس «حصان وحشي» حرا طليقا لا يخضع لنواميس الطبيعة.

وهنا يظهر ولعها بالشعر وعشقها له. وكأننا في هذا السياق، نرى ميلها الى الانقياد للشعر، وكأنه المعشوق الأزلي الذي تبحث عنه، وأنها لم تحب رجلاً بالمعنى الحقيقي لهذا الحب، لأننا لمسنا من نصوصها الشعرية تعاليها على الرجل بينما تنقاد الى الشعر انقياد الذليل المطيع، كما أننا لم نقرأ الشاعرة ريمية وهي تمارس دور البنت المراهقة في أي نص من نصوصها الشعرية، بل تتعامل مع الرجل بندية ونضوج فكري. فتقول الشاعرة على لسان أمها، موجهة الخطاب إليها:

«بنتي... الله وضميرك»

ظبيتي... لا تضعفين...

تنهزم بك... كل قيمة

حتى حينما تتحدث على لسان غيرها فإن الحديث كان يدور حولها إذ تستحضر دلالات التوحد الانفرادي، فها هي الشاعرة تنطلق عن طريق التعاطي مع صوت أمها الموصي لها حيث ترتكز على مفردة «ظبية»، فتوصيها بعدم الضعف:

أنتي فرس ما يروضك كود خيال

ضاري بترويض الخيول الأصيلة

وانتي ظبي... يستاهلك ضلع رجال

ما روي من فتنة قصيدة... غليله

والشاعرة في هذه المقطوعة تتحدث عن نفسها بالطريقة التي تشاء، وإن جاء هذه الكلام عبر صوت خارجي لا علاقة له بصوته، غير أنها وضعت هذا الصوت بالطريقة التي تريد، بل ان هذا الصوت لم يرها إلا بالمقدار الذي هي ترى فيه نفسها، لهذا جاءت مفرداتها متوافقة مع الجو النفسي العام الذي تعيشه في نصوصها الشعرية والمتكئ على جدلية التوحد الانفرادي. لكنها لم تحدد موقفها من هذه النماذج الحياتية ذات المثل العليا للمرأة، إذ تركت المشهد الشعري مفتوحاً دلالياً على مصراعيه، نتخيله بالطريقة التي نريد دون أي تدخل منها في هذا الجانب:

بالضيم شيخة وغندوره

ولا بنت تقدر تجاريني

وكأن حرصها الدؤوب على تميزها عن الأخريات، دفعها للتباهي بالألم والجراح.

كما يتجلى التوحد باعتماد الشاعرة على ثنائية الشعر والعشق، الشعر عن طريق البحث عن الرؤى والعشق عن طريق الانقياد وراء المضمون، والشاعرة ريمية في هذا التوظيف الجميل للرؤى والمضمون تظهر لنا مدى رغبتها في التمرد على هاتين الإشكاليتين ورغبتها بعدم الرضوخ تحت ظل أي سماء، حتى سماء الشعر الذي تملكه، ومن خلاله كتبت عنه وله هذا الكلام:

للحين... لي بالحب كل القرارات

للحين... أنا بالشوق ظبية عفية

والشاعرة ريمية تريد أن تحب وفق مقاييس خاصة.

back to top