الحريص لا شرّق... غرّق 2-2
كلما أعود إلى هذه المقطوعة الشعرية للشاعر سعد الحريص، لا أدري لماذا؟ وكيف؟ تذكرني هذه الأبيات ببيتين حفظتهما من أحد كبار السن للشاعر جراح ابن حزيم الظفيري:شوف الحلو يطرد الهوجاس... لو ما يريدك ولا تريده لو هي لناس ٍوأنا من ناس... القلب ثوّر بواريده أخذت أحبك وشفتك قد ما أقدر جميل على حدود النظر والعجز والاقتدار كنت فعيوني على حد إلبها المستحيل فعين بدر الدجى وفعين شمس النهار أستكثر الحب في عيونك ولو هو قليل وأستصغره في فؤادي لو جروحي كبار أنحت من الصمت كلماتي وروحي تسيل على الورق وأشعل الدنيا لك حروف نار لعل لوجود الثنائية التضادية سبب في هذا الموضوع، ربما، ولِمَ لا؟! حيث إن نص سعد الحريص يحتوي على ثنائيات جميلة تدور بين رجل وامرأة وبين قلب وروح وبين مطر وأرض، جاءت هذه المتضادات رغبة في الصعود إلى الأعلى بالقدر الذي يتشبث فيه الشاعر بالأرض. في هذه المقطوعة العذبة تبدو لنا المحبوبة منصهرة بين الحروف وفي عبق المكان والطريق، وممتزجة بالمطر، غير أنها لم تكن واضحة الملامح، إنها ذائبة في الجميع متخلخلة بين مسامات الطبيعة، وفي مشاعر الشاعر الذي يريد استحضارها من اللاعالم إلى العالم، من العدم إلى اللاعدم، ومن كل لا شيء إلى كل شيء، لهذا كانت هذه المحبوبة تبدو هنا وهناك، لهذا أكاد أتصورها تختال بين الرعد والبرق والجفاف والمطر والسنين والغيوم، وفي الركض والسير على الأقدام. هذه الثنائيات الزاخرة في هذه المقطوعة، منحت هذا الكلام زخماً روحياً وبعداً شعرياً خلاقاً، الكامنة بين «العجز والاقتدار»، وبين «بدر الدجى وشمس النهار»، وبين «أستكثره وأستصغره»، وبين «عيوني وفؤادي»، وكذلك بين «قليل وكبار»، لهذا كان الشاعر في هذه المقطوعة يتشظى وهو يتحدث عن ذاته الهائمة الباحثة عن الجمال، الراغبة في التواصل مع المحبوب من خلال هذا الاستغراق في استخدام كل هذا التكثيف من الثنائيات المتضادة، التي تدل على انغماس الشاعر في الحديث عن هذا الحب الذي امتزجت روح الشاعر فيه. نكتشف مدى تكثيف هذا الحضور للمحبوب في هذا الجو المشبع بالرغبة في استمرار عملية التواصل، وفي هذا الإحساس تأكيد لحالة التواصل بين الشاعر ونصفه الآخر في الحياة، بما في هذا الشعور من صراع خفي وظاهر في نفس اللحظة بين الثنائيات المتضادة في المقطوعة السابقة. إن هذا الحبيب نراه موجوداً من خلال ضمائر متعددة، تراوحت بين ضمائر كاف المخاطبة أو تاء الفاعل، كما في «أحبك - شفتك - عيونك - لك»، وكذلك كما في أول البيت الثاني «كنت»، أي أنها جاءت لتكثيف حضوره المكاني في السياق، وانتشار هذا الوجود في كل هذه المقطوعة الشعرية، وكذلك نرى هذا المحبوب في اندفاع الشاعر إلى الحياة، وفي صراعه مع نفسه من خلال اعتماده على هذه التضادات الثنائية، لهذا ونظراً لأن هذا الحبيب هو المحصلة النهائية لكل الأشياء الجميلة في هذه الحياة «على حدود النظر - على حدود البها - فعين بدر الدجى - وفعين شمس النهار - وأشعل الدنيا لك حروف نار»، لذا يصبح الشاعر مندمجاً في هذا التيار الجارف القادم إليه من أجل أن يملأه في الحب والشعور بلذة الحياة، والاستمتاع في الاندفاع إليها، وذلك واضح في هذه المقطوعة الشعرية المشتملة على حركات ارتدادية متعددة كتوابع الزلزال، لإحداث حالة من الاستقرار النفسي لدى الشاعر، أقول بما في هذا النص من حركات ارتدادية كانت واضحة من خلال هذه الثنائيات المتضادة، التي تم الحديث عنها وتناولها في هذه القراءة، إذ كان هذا الزلزال المفعم بالحركات الارتدادية إفرازاً لحالة الإحساس الوجداني المتصاعد للحلم والتأمل والاندماج في الحب الصوفي البعيد عن تداعيات الجري وراء المادة، البعيد عن ماديات الإنسان المعاصر، حيث كان الشاعر سعد الحريص سابحاً في ملكوت الحب والرغبة العاطفية المكبوتة بين جدلية هذه الثنائيات المتداخلة، من أجل الانعتاق من عبثية الأقدار والظروف الخانقة. كانت هذه المقطوعة الشعرية، محاولة من قبل الشاعر للبحث عن ذات هائمة غارقة في خضم الحياة، حاول الشاعر التوصل إليها من خلال فكرة التواصل مع الحبيب، باعتبار أنه نصف الإنسان الآخر في هذه الدنيا.