الرقص بين الخيال والوجدان

نشر في 04-07-2008
آخر تحديث 04-07-2008 | 00:00
 محمد مهاوش الظفيري قال أحد المتصوفة: «من عرف قوة الرقص عاش في أكناف الله» بصرف النظر عن هذا الجنوح المقصود أو المتعمد في تمييع العقيدة الدينية لدى الأفراد، أرى أن الرقص هو عبارة عن مجموعة من الحركات الجسمانية المادية التي يؤديها الراقص أمام مجموعة من الأفراد أو بمفرده يعتبر محاولة للانعتاق من نمطية الحياة الجافة الصارمة من أجل إمكانية الالتحام الروحي بين النفس والمادة، بعيداً عن أي هموم إنسانية أخرى تشغل فكر المرء عن الانغماس في القضايا الوجدانية كالحب والرحمة والتسامح على سبيل المثال.

هذا الأمر الذي تحدثنا عنه ينسحب على الموسيقى والغناء والفرح والبكاء وغيرها من الجوانب الإنسانية في حياة الأفراد والجماعات، وترتبط بالوجدان ارتباطاً أولياً مباشراً لا علاقة للخيال بها في طور بداياتها الأولى، وهذه الأمور مؤثرة في بناء العمل الأدبي والفني، وقد يكون للخيال مؤثر جانبي أو مؤثرات جانبية عليها، لكن اليد الطولى في هذا المجال للوجدان المتحكم في بناء أي عمل أدبي خلاق، غير أن الرقص والموسيقى أو البكاء على سبيل المثال التي ترتكز على عوامل وجدانية في بداية نشوئها، لكن بعد خروجها للعالم الخارجي من عالم العدم، فإن الخيال له يد في تطوير هذا السلوك او تهذيبه أو توجيهه الوجهة التي يريدها، حسب قناعات الأفراد والجماعات وموروثهم الروحي أو الثقافي أو الأخلاقي، فرقصة الدحة أو العرضة أو الدبكة عوالم وجدانية حركها الشعور الإنساني لمواكبة ظروف اجتماعية معينة، ثم جاء في ما بعد الخيال، وقام بتنظيم هذه الحركات الجسمانية المحسوسة وتحكم بها حسب معطيات الناس الاجتماعية.

الخيال عامل قوي في بناء النص الشعري، لأنه قادر على إخراج الكلام -أي القصيدة- من عالم العدم إلى حيز الموجودات، والخيال قادر على تمكين الإنسان من الانقلاب الذاتي على نفسه، حيث ينقلب كلام الإنسان المنشور المتداول إلى كلام موزون ذي أنغام موسيقية تسمى شعراً. وفي هذه الظروف يجدر بنا الوقوف للتعرف على قضية مهمة في هذا المجال، وهي محاولة التفريق بين الجنون والخيال من أجل مواصلة الحديث في هذا الجانب.

الجنون انتكاسة بالعقل إلى الوراء، أما الخيال فهو انطلاقة بالعقل إلى ما وراء العقل، فعندما يصطدم الإنسان بالواقع ويقف العقل عند نقطة لا يمكنه تجاوزها، تتحرك طبقتان في العقل، هما الجنون والخيال، فإن كان التحرك إلى الوراء نشأت عقدة الجنون التي تزداد كلما تدحرج العقل إلى الخلف، أما إذا انعتق العقل من صرامة التفكير تجاوز نفسه بنفسه ووصل درجة التخيل ودخل عالم الخيال اللا محدود، ويمكن أن يؤدي هذا الإجراء إلى الجنون، إذا فقد صاحبه السيطرة عليه.

الخيال غير المدعوم بشحنات وجدانية توجهه الوجهة السليمة لا يستطيع الوقوف على قدميه، ولا يمكنه أن يقدم لنا شعراً جديراً بالاهتمام.

وما دام الأدب، ولاسيما الشعر، هو بضاعتنا التي من أجلها نتحدث ومن أجلها نكتب، رأينا أنه من الأجدر التطرق الى هذا الجانب، وهو جانب الرقص على وجه الخصوص، للتعرف على مدى علاقته بهاتين الحالتين، وهما حالة الوجدان وحالة الخيال، والتطرق إلى هذه الزاوية ما أمكننا ذلك في هذه القراءة.

تقول استقلال الزامل:

وإذا مريت من بالي

ضوى شمعي

رقص سمعي

تعطر بك فضاي

وزهر بستاني

في هذه المقطوعة يتمحور الرقص من كونه حركات جسمانية مادية إلى انغماس وجداني يندمج بالخيال، في هذا المشهد يمتزج الرقص بالحس الإنساني المتداخل خارجياً من خلال عملية السمع، وداخلياً من خلال أثر ذلك السمع على الوجدان، لهذا تنتقل الحالة الانتشائية بهذا الرقص لتعم أشياء الشاعرة الخاصة في انسجام متكامل بين الروح والمادة وارتباطهما بالرقص.

ثم نترك الشاعرة استقلال الزامل، ونتوجه إلى شاعرة أخرى تناولت هذا الموضوع لكن من زاوية أخرى، وهي الشاعرة شيخة الكتبي التي تقول في إحدى قصائدها:

أرقص تحت هذا

المطر أربع سنين

ويغتسلن ذنوب الجسد

فيك.. يا طهر

فالرقص عند شيخه الكتبي تمحور من استرخاء ذهني كما عند استقلال الزامل إلى محرض إلى الحركة في أداء الفعل الآني، إذ إن الشاعرة تريد الاستمتاع في اللحظة العابرة التي تمر بها، وكأن الرقص عند هذه الشاعرة رغبة في الاندماج الجسدي الوجداني والاغتسال من أعباء المادة بعيداً عن عالم الروح، وهذا الكلام يدفعنا الى القول من أن شيخة الكتبي حاولت الاندماج بالرقص على أنه حالة وجدانية عابرة، بينما استقلال الزامل حاولت المزج بين الحالتين في ذلك المقطع.

يقول الشاعر عبدالله الملحم

عبري بالرقص عن

قصة حياتك

ارقصي لا صارت

أيامك جروح!!

ثم يتواصل هذا الموقف في نفس هذا النص حيث يقول في بيت آخر

استبدي في انسجامك

لين ذاتك

تخشع لصخر الثرى

ويصير دوح!

الأمر يختلف مع الشاعر عبدالله الملحم، ولعله أكثر وضوحاً في مدى ربط هذه الحركات الجسمانية المادية، ومزجها بمحاولة الانقلاب الزمني ومدى علاقته بتغيير نمطية الحياة، وذلك لأنه اعتمد على أفعال أمر في هذا السياق «غيري- ارقصي- استبدي» فالرقص هنا تحول من حركات جسمانية إلى محفز للتغيير ومحرض على عدم البقاء في سياق حياتي معين.

الملاحظ على تلك المقاطع الشعرية لهؤلاء الشعراء، أنها انطلقت من الوجدان كمحرك أساسي لهذه الرغبة، وهذا يفسر ما قلنا في أول هذه الورقة من أن الرقص ما هو إلا تعبير عن الوجدان، وليس نتاجاً للاستغراق في ملكوت الخيال ونابعًا من التأمل إلا عند استقلال الزامل التي حاولت المزج بين هاتين الحالتين كما مر معنا في هذا السياق.

هذا ما استطعت الخروج به من هذه الورقة من أجل لملمة المسافة بين النظرية والتطبيق معتمداً على ما أمدني به الخيال مستعيناً بنماذج عدد من الشعراء لتوضيح هذه الصورة للمتلقي الكريم، وذلك من أجل المساهمة في تأسيس نظرية أو العمل على تفتيق ذهن المتلقي الواعي المثقف للمساهمة في هذا المجال بكتابات قد تكون أفضل وللعمل على تقديم أعمال أدبية قد تكون أكمل مما أقدمه في كتاباتي الأدبية.

back to top