التوحد الانفرادي بشكل تصاعدي (2 - 2) عند سيدة الشعر النسائي في الساحة الشعبية
في منحنى التوحد الانفرادي بشكل تصاعدي تنتقل الشاعرة من الحياة على الأرض، وتتطلع إلى السماء لتناجي نفسها، أو لتبحث عنها محاولة اكتشاف ذاتها، حيث تتوارد الدلالات الموحية بالعلو والسمو:وأغيب في دمعي... صحا دمعي أسرار وعيوني أطفالٍ صفع شوفهم سور من يبي يذكرني فأنا... غيمة أشعار تمطرني دموعي على ذاكره... بور الأطفال عندما يمنعهم الواقع المتمثل بالـ«سور» عن تحقيق أحلامهم، أو يقف الزمن حائلاً بينهم وبين الانطلاق وراء طموحاتهم، يبدأ الخيال بالسفر معهم، وهذا ما نراه عند الشاعرة، وفي نظرتها إلى الحياة التي لا تؤمن بالأطر والسياجات. فتصف نفسها بـ«غيمة أشعار» وهذه إشارة إلى الارتقاء والعلو، والذي اصطلحنا عليه في هذه الدراسة بالتوحد الانفرادي البعيد عن ماديات الأرض، ورغبتها في التعلق بكل ما هو علوي وشامخ، كتجسيد حي لأحاسيسها المتوثبة الحالمة.ما لقلبي عن الحر النداوي مهّجوين قبلت جنحان الفرار استدارفي ضلوعي حباري كل ما أومى تلِّجوفي ضلوعي هقاوي كل ما أركَي تغارصاح طفل الضلوع من انكساره وضَّجيشكي الوجد لعيونٍ تِضِل النهاروبعد ذلك تواصل الشاعرة الحديث في نفس هذا النص:آه... يا من عيونك... للمشقّى مَحّجصرت بينك... وبينك نجمةٍ في مدارفتكرس هذا الفهم الاستنباطي عندما تصف نفسها بـ«نجمة ٍ في مدار» أي أنها ترى نفسها بعيدة عن الأخريات من بنات جنسها، كإشارة دلالية على توحدها الانفرادي، وهو توحد تصاعدي مرتفع إلى أعلى، بعدت فيه الشاعرة وارتفعت عن الأرض، وهو متوافق مع تداعيات المشهد السابق «الحر- حباري- طفل».كما يوحي الجو العام في شعرها بعمق ارتباط الشاعرة ريمية بهذا التعامل المتعلق باستخدام مثل هذه المفردات:يارب ترسل لي من طيور حوران رجال ما يدرج على كبده الحوملو مت في نفسي وأنا ظل وأغصانأخير من بومٍ يورثني البومثم تقول في بيت آخر ضمن هذه القصيدة:لابد ما ألقى لي نداوي كحيلانلو قيل هالدنيا غدت حولي رخوميتجلى مشهد الانفراد في هذه الأبيات، من خلال اعتماد الشاعرة على بعض الدلالات اللغوية التي توحي بذلك «طيور حوران- كحيلان» فهذا التوظيف لتلك الدلالات في هذا السياق، دفع الشاعرة إلى الإتيان بإشارات لغوية تدل على رفضها لكل ما هو عكس ذلك المفهوم مثل «بوم- البوم- الحوم- ظل وأغصان- رخوم» كإيحاء لمدى رفضها ومقتها لكل ما يتنافى مع العزة والكرامة.إن المتأمل في الأبيات السابقة، يجد استحالة تحقيق الشاعرة لذلك التميز، فهي في قرارة نفسها مؤمنة بعدم مقدرتها على إمكانية تحقيق ما تريد، وذلك واضح من خلال اتكائها على قوة خارجية جبارة «يارب» لأن هذا الدعاء التوسلي نتاج حتمي للشعور بالقحط العاطفي، لعدم مقدرتها على إيجاد ما تريد.***هناك حاجة إلى التوقف وإعادة النظر في أشعار ريمية للتعرف على جماليات النص الشعري لدى هذه الشاعرة التي شغلت المهتمين بالساحة الشعبية، كما في قصيدتها في «ضلع... اعوجاج»:لا تقوّمني وأنا ضلع اعوجاجينكسر بايديك قلبي يا غشيمالرضا محتاج له وقت ومزاجوما خبرتك طمس بطباع الحريمهذا النص من الوجهة العامة استغراق في عالم الأنثى وفهم عميق لعالم الرجل، وهو نص عقلاني. ولعل الشاعرة أحست أن هذه القصيدة لها ولبنات جنسها، لذا أبت أن يطل عليها أو يشاركها الرجل رغم أهميته بالنسبة إليها، إلا من خلال مفردة «غشيم» التي جاءت كنوع من التهكم الاستفزازي، وكأنها لا تريد في هذا المشهد إلا ذاتها الأنثوية، وهنا يتضح لنا أن الشاعرة لا تفهم الرجل فقط، بل تجاوزته وكادت تلعب به من خلال توجيهه وتأنيبه. ففي البيتين الأول والثاني، يتجه الخطاب الشعري، منذ اللحظة الأولى إلى تكثيف عالم المرأة، ذلك العالم القائم على ضرورة القوامة والتقويم، لهذا تلجأ الشاعرة إلى الموروث الذهني المعتمد بأن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وبدأت بالتحرك من خلال هذا السياق التاريخي، حيث ترتكز على هذا الموروث الروحي والعرف الاجتماعي المؤمن بهذا الفهم المتعمق في الذاكرة الجمعية الخاصة بالمرأة، فتخطف منه المبادرة وتعمل على توجيه الخطاب الشعري في هذا البيت وفق ما تريد لتصل في نهاية المطاف إلى وصف المقابل لها بالـ«غشيم» إذ تؤكد هذه الحقيقة الاجتماعية المستمدة من «عالم الحريم» باعتبارهن عارفات بما ينبغي وما لا ينبغي أثناء التعامل معهن، كما هو مبين في البيت الثاني.لكننا نلاحظ عموما عدم مرونة المفردة الشعرية، إذ إنها لا تمنحني المساحة الكافية للتحرك من خلالها، حيث أحسست أنني مكبل بقيود صارمة، وكنت في بعض المرات كأنني أسير على السكين للوصول إلى ما أريد من الشاعرة أو ما تريده الشاعرة مني، ثم لاحظت بعد ذلك، وهذه الملاحظة مرتبطة بالملاحظة الأولى، محدودية الخيال في النص الشعري لديها، وهذه المحدودية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمفردة الشعرية، التي تم الحديث عنها، أما الملاحظة الثالثة، فهي ملاحظة شكلانية رغم أن لها علاقة بالمضمون، حيث إن النص العمودي أقوى من التفعيلة، كما أن قصيدة التفعيلة تدور في عالم القصيدة العمودية، أي أن النفس العمودي مسيطر على أجواء قصيدة التفعيلة لدى الشاعرة، وهذا الكلام في اعتقادي لا يقلل من مكانة سيدة الشعر النسائي في الساحة الشعبية، بل تظل ريمية رقماً صعباً من العسير تجاوزه نسائياً.