الأمس والغد

نشر في 08-12-2008
آخر تحديث 08-12-2008 | 00:00
 د. حسن حنفي ومن مفاهيم الزمان مع القرن والدهر، والوقت والساعة، واليوم، والضحى والعَشِي، والصبح والإصباح، والليل والنهار، الأمس والغد، وقد شاعت فكرة وصلت إلى حد اتهام الفكر العربي والإسلامي كله أنه ماضوي، الأمس فيه أفضل من اليوم، وأن التاريخ ينهار كلما تقدم الزمان، وأن السلف خير من الخلف، وأن السلف ما ترك للخلف شيئا «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ». وكانت النتيجة أن أصبح التقليد أفضل من الإبداع، والقدماء أفضل من المحدثين. فالتاريخ طبقات، والطبقة الأولى أفضل من الثانية، والصحابة أفضل من التابعين، والتابعون أفضل من تابعي التابعين. المعتزلة طبقات، والفقهاء طبقات، والمحدثون طبقات، والمفسرون طبقات، وكانت النتيجة أن أصبح المجتمع طبقات، والناس طبقات، والعالم طبقات، والزمان طبقات، كل شيء طبقات، فما هي صورة الأمس والغد في القرآن؟

ورد لفظ «الأمس» في القرآن أربع مرات وفي صورة لغوية واحدة، في حين ورد لفظ «الغد» خمس عشرة مرة مما يدل على خطأ الفكرة الشائعة أن الأمس أفضل من اليوم، واليوم أفضل من الغد، في حين أن الغرب قد تقدم بالتصور المضاد أن اليوم أفضل من الأمس، وأن الغد أفضل من اليوم، وقد ورد لفظ القرآن «الأمس» في مراته الأربع كأسماء بمعنى الانهيار والتلاشي مقارنة باليوم «فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ». فبناء الأمس وهم لا يصمد بالنسبة لقوى اليوم، الأمس يوم الاستنصار ولكن اليوم يوم التخلى والانهيار «فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ». الأمس يوم القتل وسفك الدماء «قَالَ يَا مُوسَى أتُرِيدُ أنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأمْسِ». الأمس زمان الأوهام والتمنيات الخادعة «وَأصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ». وفي نفس الوقت يمكن تأويل هذه المعاني السلبية تأويلاً إيجابياً أن الأمس ينهار لصالح اليوم، وأن الأمس أقرب إلى الوهم والخداع الذي ينقشع اليوم، وبالتالي الأمس لا ثبات له ولا أساس مما يجعل التقليد مستحيلا، والتشبث بالماضي ضد التقدم في الزمان، وفي اللغة التداولية للأمس نفس المعنى، التحسر على أيام زمان والنعيم الضائع والفردوس المفقود، والهناء الذي تحول إلى شقاء «امتى الزمان يرجع يا جميل، وأسهر معاك على شط النيل». وفي نفس الوقت الأمس وقت القلق والأرق «ليلة امبارح ما جانيش نوم»، فلا يوجد تصور ثابت للأمس، إذ يمكن اعتباره الزمن الضائع ويمكن تأويله على أنه يمكن تغييره إلى غدٍ أفضل.

أما لفظ «الغد» فقد ورد في القرآن خمس عشرة مرة بصور لغوية مختلفة، فعلية ثلاث مرات، واسمية اثنا عشرة مرة في صورتين... «الغد» ست مرات أي الزمان القادم، و«الغدو» ست مرات أي التحرك نحو الغد... ويفيد فعل «يغدو» التحول من الأمس إلى اليوم، ومن اليوم إلى الغد أي مسار الزمان المتصل «وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ». وقد يكون التحول سلبا بمعنى أصبح «فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ». وقد يكون إيجابا «وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ». أما الصيغة الاسمية «الغد» فقد تعني المستقبل البعيد «يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ». وغد الغد هو يوم القيامة والبعث، يوم الحساب والجزاء «سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ». والمستقبل القريب، الغد بالمعنى الزمني هو استعداد «أرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ». وقد يعني الغد الاحتمال والتوقع والتخطيط والإمكانية. وهو ليس بيد الإنسان وحده. فهناك عوامل موضوعية أخرى محددة له، وهو ما يسمى في العقائد مشيئة الله، «وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً، إِلا أنْ يَشَاءَ اللهُ». أما صيغة «الغداة» فتعني فترة من الزمن في مقابل العشي أي المساء، والغد مقدم على العشي في حين أنه في التوالي الزماني بعده. وهما وقتان للدعاء «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ». ويحتاج الدعاء إلى صبر قبل أن يتحقق «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ». أما صفة «الغدو» فتعني الحركة في الزمان مقرونة بالآصال «وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ». ويعني الصباح أو المساء، فالغدو حركة متصلة من الأمس إلى اليوم للريح «وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ». فالغدو قد يمتد من يوم إلى شهر وهو المستقبل بين القريب والبعيد. والغدو للتسبيح «يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ»، وللسجود لله «وَلِلهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ». وهو مع العشي يوم الحساب لأهل النار إشارة إلى استمرار العذاب ليل نهار «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً». وفي الأمثال العامية يفيد لفظ «بكرة» نفس المعنى، وهو نفس اللفظ القرآنى «بُكْرَةً وَأَصِيلاً». ويستعمل إما للتسويف أي الغد الذي لا عمل فيه «فوت علينا بكرة» أو للغد المملوء بالأمل، الأمل في اللقاء «حاقبله بكرة» أو الأمل في السفر واكتشاف الجديد وارتياد المجهول «بكرة السفر بكرة».

* كاتب ومفكر مصري

back to top