الشعر والخيال
رغم هذا السُّعار الإعلامي الهائل على سبيل الصورة المرئية إعلامياً، والتسابق المادي الحاد والعنيف وراء المادة بكل أنواعها وتفريعاتها، وفي نفوس القراء والمتابعين والمستمعين، حتى عند أولئك الذين لا يحسنون قراءة الشعر بشكل صحيح، ولا يحبذون حضوره بشكل دائم أو شبه دائم، إلا على سبيل الاستماع، والاستماع فقط، إما مسايرة للآخرين، أو للترفيه عن النفس في بعض الأحيان، رغم كل هذا، يبقى الشعر في أولى المراتب محافظاً على رونقه القديم مع اختلاف واضح في التعاطي معه. إن هذا الوضع يدل على إصرار هذه الأمة العربية ذات الهوية الواضحة والثقافة المميزة، على إبراز بصمتها الذاتية الخاصة بها، كونها أمة كلام، وأمة بيان وبلاغة، وشعب يعشق الفصاحة والإفصاح عن مكنون الصدور حد الثمالة، ويرى أن التفنن في صنوف الكلام من أهم مقوماته الثقافية، كيف لا يكون ذلك، والعرب اسم مشتق من الإعراب، الإعراب عن مكنون الصدور وخبايا النفوس، أقول: رغم كل هذه الثورة التقنية الهائلة التي تجتاح العالم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن أعلى قمم الشمال إلى مجاهل الجنوب، رغم كل هذه المادية الشرهة والحياة التي لا تعتمد إلا على الأرقام والحقائق الموثوقة بالصور والمعتمدة على التقارير والأدلة والأرقام والرسومات البيانية، يبقى الشعر في مكانته المعهودة السابقة، وإن تناثرت بعض الأقاويل هنا وهناك من أن الرواية أصبحت ديوان العرب الجديد، يظل الخيال حاضراً حضوراً بيّناً، ولن يكون هناك شعر، ما لم يكن هناك خيال يرفد هذا الشعر بكل طاقاته التأملية وقدراته التخيلية التي تصنع منه شعراً يستحق القراءة، هذا الخيال الذي يتجاوز بأصحابه كل حدود الخيال، للدخول في عالم الميتافيزيقيا الغارقة في التأمل. رغم المجازر والحروب واستباحة كرامات الدول ووأد حريات الشعوب، والقتل المنتشر على الهوية هذه الأيام، يظل هاجس الروح، وحب التطلع إلى المستقبل المنظور أو غير المنظور، القائم على الخيال والتأمل، والاستغراق في عوالم ما وراء الطبيعة، يفرض نفسه على الشعراء، وعدد لا بأس به من متذوقي الأدب والفن، والشعر على وجه الخصوص. إن المتأمل في إنسان هذا العصر، يجد أن الروح الشاعرية لديه قد اضمحلت، وضمر لديه الإحساس الإنساني الخلاق، وأصبح إنسان هذا العصر مثل الآلة، ليس له قيمة في حد ذاته، إلا بالقدر الذي يمكن الاستفادة منه، وهو - أي الإنسان - انقلب على إنسان الأمس وانسلخ عنه، لأن إنسان الأمس كان متعلقاً بأمور غيبية كثيرة، كعبادة الله - سبحانه وتعالى - حق العبادة، أو التعلق بالآلهة والأوثان، وما شابهها من أمور غيبية لا مرئية من الصعب تصورها. أما إنسان اليوم، فهو لا يعبد إلا المادة، ولا يركع إلا للمال، ولا يؤمن إلا بالاقتصاد، أي أنه يرى ربه ومعبوده الجديد شاخصاً أمامه كأرصدة البنوك والسيارات، وغيرها من ماديات العصر، وعلى هذا الأساس أصبح يرى معبوده أو يكاد يلمسه أو يركبه أو يضعه في جيبه، أي أنه صار يتعامل معه من باب الفائدة والربح والخسارة. وحتى لا يشطح فكر بعض المتملّقين، بشأن حساسية الأمور الغيبية، أقول: إن الحكايات والأساطير التي كنا نسمعها عندما كنا صغاراً من الأمهات والجدات قبل النوم، لم يعد لها ذلك البريق هذه الأيام، بل لقد ذهبت مع من ذهب من كبار السن، لأن أبناء هذا الجيل، جيل الانترنت والـ «بلاي ستيشن» الذين أعملوا عقولهم في التكنولوجيا وتفنّنوا في مهارات التقنية الحديثة، لم يعد لـ «تريترا أم ترتور» وحمارها الأعرج، والأطفال الذين تأخذهم في رحلة العذاب الطفولي، إلى أن ننام ونشبع نوماً، وحتى عند هذه اللحظة التي أكتب بها هذه السطور لم نقف على نهاية نختتم بها رحلتها الأزلية، أقول: إن هذا الجيل لم يعد يهتم بمثل هذه الحكايات الشعبية الجميلة، لأن عنصر التخيل اضمحل لديه، بالقدر الذي اتسع أفقه العلمي، وتطوره التقني الفني والمهاري، والشعر خيال لا يعترف بالحدود والأطر الثابتة المحددة بسياجات معينة، ترسم ملامح الأشياء بشكل ثلاثي الأبعاد، أما الخيال التأملي فلا مجال له عندهم.