سعد الحريص... صادق الوضوح متعدّد الأبعاد
الأشعار التي نقرؤها كثيرة، لكن الذي نحتفظ به في مخزون الذاكرة منها أقل من القليل. إن الشعر ليس كلاماً موزوناً مقفّى، كما تذكر ذلك الكتب القديمة، أو الذين لا يعرفون من الشعر إلا الأحجام والأشكال، إنما هو كما يقول الجاحظ «ضرب من الصياغة والتصوير»، وقد تطور مفهوم الشعر عما قاله الجاحظ وصار محاولة للبحث والتجلّي واكتشاف الحاضر وهضم الماضي والقدرة على استشراف المستقبل، إنه باختصار شديد جسّ نبض الإنسان والتجربة الذاتية. يقول سعد الحريص: ليت حزني مثل حزن البشر واكتبه / وليت دمعي مثل دمع العيون ويسيل إن هذه الكلمات احتوت على ما قلناه عن الشعر، كما هي الحال عند شعراء آخرين كفهد عافت والحميدي الثقفي ونايف صقر... وغيرهم، الذين احتوت أشعارهم هذا المفهوم، وبعضها تجاوز هذا الفهم إلى هضم المعاناة الإنسانية، غير أن هذا البيت له خصوصية واضحة، على الأقل عندي وأنا أمسك هذه اللحظة بالقلم: أشعر أني ردي خط وردي تجربة / وأشعر إني على بعض المشاعر بخيل إعجابي بما يكتب هذا الرجل واضح وجلي، كذلك إني معجب بكل شعر جميل رائع متعدد الأبعاد، بإمكان المرء أن يراه من زوايا متعددة. لا أريد أن أتحدث عن الاستعارة أو التشبيه أو الكناية في البيتين السابقين، لكن سأتكلم عنهما من خلال الصورة الشعرية الممتدة التي كلما نصل إلى نقطة من نقاطها المتعددة تتفجر أمامنا المعاني، وهذا المفهوم يكون صادق الوضوح في كثير من قصائد مسفر الدوسري، غير أن هذين البيتين بحاجة إلى كشف بعض الأسرار الإنسانية فيهما: يبدأ المشهد بالمتني الدال على استشراء حال الضعف، لكنه ضعف من نوع آخر... إنه ضعف استبدادي أي محاولة للوصول إلى منطق القوة في هذا الجو المشبع بالهزيمة. إن الحزن الذي سيطر على الشاعر لعله حزن بسيط أو أقل من المعقول، غير أن نفسية الشاعر الراغبة في الاستبداد بدأت تصور له الأمور على غير طبيعتها، لذلك تمنّى كتابة حزنه أي تمنّى احتواءه، والكتابة عن الشيء جزء من احتوائه، كما أن البكاء وذرف الدموع دلالة على التخلص من الحزن والهموم، والأشياء عندما تكون مكبوتة تكون قابليتها للانفجار أقوى، ومن ثم يكون بعد ذلك التلاشي والذوبان في جزئيات الهواء أقوى من مجرد الصراخ والعويل. أمام هذا الموقف الانهزامي يبدأ المرء يتصور نفسه كالمنهزم المحطم، لذلك يتخيل بأن الجميع أعداؤه، حتى لو كان غير معروف في المجتمع، لكن النفسية البشرية دائماً أو غالباً تصور الأشياء على غير طبيعتها، وعند الشعراء على وجه الخصوص. أمام هذا الموقف، وهو حزن الشاعر، يتصور بأنه «ردي حفظ» وأمام عدم القدرة على التعبير يتصور بأنه «ردي تجربة»، وأمام عدم القدرة على البكاء يتصور بأنه بخيل حتى في البكاء على نفس أو العويل عليها أو حتى مجرد الهمهمة في البكاء. إن هذين البيتين متوازيان في المعنى بشكل يجعلنا نظن أن الشاعر كان لديه تطور مسبق عما سيقوله قبل أن تخطر هذه الكلمات في مخيلته، رغم أن هذا الظن يضعف من حقيقة الشعر، لا أدري كيف جاءني هذا الهاجس الظني، وحتى يكون هذا الاعتقاد له مبرر لا بد من إيراد هذه الأمثال المأخوذة من كلام الشاعر. ليت حزني مثل حزن البشر يقابلها / أشعر أني ردي حظ واكتبه يقابلها / ردي تجربة ليت دمعي مثل دمع العيون ويسيل يقابلها / وأشعر أني على بعض المشاعر بخيل يسيل يقابلها / بخيل إن القصيدة لدى الشاعر بمنزلة الرئة التي يتنفس بها، والمتنفس الوحيد الذي يطل من خلاله على العالم، والمرآة التي تعكس وجهه لمن سواه، لهذا كان للشعر عند سعد الحريص ومن وافقه من الشعراء، المحرك الأساس في تعاطيه مع الكلمة الصادقة المعبّرة.