الشعر... وعملية الانصهار

نشر في 04-04-2008
آخر تحديث 04-04-2008 | 00:00
No Image Caption
 محمد مهاوش الظفيري الأدب المتقوقع في بؤرة الذات الرافض لكل جديد، أدب لن يتطور، لأن التطور نتاج عملية الحوار مع الآخر، إذ إن الأدب غير المتجدد كالماء الراكد، بينما الأدب المتطور كالنهر المتدفق. ولعل ما ميز شعر ابن لعبون على غيره من معاصريه أنه التقى أناساً غير أهل الجزيرة، واحتك بثقافات أخرى، وتنفس هواء مختلفاً أكسبه عنصر الاستمرارية والانطاق ومنحه قوة البقاء.

إن التواصل والاتصال بالنسبة للأديب أو الشاعر مهم وضروري جداً، ومسألة التأثر والتأثير أو ما يعرف بالتلاقح الثقافي قديمة قدم التاريخ، وقد التفت العلماء العرب إلى هذا الجانب إذ يقول الجاحظ: «المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي والبدوي والقروي» وعلى هذا الأساس أخذ النقاد وخصوصا المنصفين يغضون الطرف عن بعض الهفوات إذا صدرت من المبدعين أمثال أبي تمام والمتنبي، وقد أهمل الناقد العباسي قدامة بن جعفر مسألة السرقات الأدبية، ولم يتطرق لها في كتابه القيّم الفريد «نقد الشعر». وفي هذه الأثناء يجدر بنا التعرف على هذه المسألة، لقد تكلم أكثر من ناقد عن عيوب المتنبي كالحاتمي والصاحب بن عباد، مثلاً، لكنها ذهبت أدراج الرياح وبقي المتنبي كالطود الشامخ يسخر من كل الذين عابوا عليه أو انتقدوه.

حين نعود إلى الشعر نلمح هذا الشطر لأبي القاسم الشابي

وعاصفةٍ من بنات الجحيم

وفي مجال الشعر الشعبي وافقه خالد الفيصل في هذا المعنى رغم الاختلاف الواضح في الألفاظ

من بنات الريح لى صفرا جفول

وهذا الأمر، سواء قصده الشاعر أو لم يقصده، يعتبر عملاً طبيعياً في حركة الشعر. المعنى واحد لكن الأول يميل إلى الانتشارية أي أنك تستطيع أن ترى الصورة أو تدقق في المعنى من زوايا متعددة، بينما يميل الثاني إلى الوضوح والبساطة، رغم توافقهما في الحركة الاندفاعية المتدفقة.

وفي هذا المجال، وبشكل أكثر وضوحاً، يقول الحميدي الثقفي:

مهو لازم اقطع دابر الشك بالتصديق

ولا هو ضروري تعكس أشعاري أخلاقي

ويقول نايف صقر

ما نيب من عاش لا يربح ولا يخسر

ولا هو ضروري تكون أفعالي أخلاقي

وهنا تأثر أدبي واضح لا يحتاج إلى براهين، غير أننا غير مهتمين بمعرفة من تأثر بمن، لأن كلا البيتين رائع. وهذه مسألة نسبية «روعة البيتين» قد يخالفني فيها بعض الناس أو يوافقونني، فلا يعنيني كمتلقٍّ من تأثر بمن، لأنني قرأت في كلتا الحالتين شعرا، كما هو الحال مع الشابي وخالد الفيصل.

الأخذ ممن سبقك شيء طبيعي، بل الإنسان الطبيعي هو الذي يتأثر، لأن الأدب سلسلة إنسانية متصلة، وهذا ما فعله ناصر الفراعنة في قصيدة «ناقتي» التي تأثر من خلالها بقصيدة الصنوبري، ويحسب للفراعنة أنه أعاد صياغة النص الفصيح بلغة شاعرية شعبية، ولن أجازف في القول: إن الفراعنة تفوق على الصنوبري صاحب القصيدة الأصل، وفي هذا الصدد حبذا لو ترك الفراعنة قصائد «ملي بملي وطيار مظلي» وقدم لنا قصائد شعرية شبيهة بهذا النص برؤى شعرية مختلفة، لكن الخطأ كل الخطأ أن يضع الشاعر تجربته في موقف لا يُحسد عليه. وهذا ما وقع فيه الشاعر المعروف عبدالله الصيخان، وذلك عندما أخذ بيت بدر بن عبدالمحسن المشهور.

ليت الشوارع تجمع اثنين صدفه

لا صار شباك المواعيد مجفى

وهو من ضمن قصيدة «حلم غرفة» التي قدمت عنها كتابةً نُشِرت منذ زمن في بعض الصحف. إن الاقتباس أو التضمين أو الاستفادة من تجارب الآخرين عمل مشروع، على ألا يكون بنفس الطريقة التي تعامل بها الشاعر الكبير عبدالله الصيخان الذي نشر قصيدة «سورة القلب» في عدد يوليو 1998 في مجلة الغدير، وذلك عندما أنهى تلك القصيدة بهذا العمل المشوه.

(ليت الشوارع تجمع اثنين صدفه)

لا قال «شباك المواعيد» ماني

سأحاول تقييم هذا البيت من زاوية مقومات العمل الفني الأربعة.

1 -الشاعر: لم يأتِ لنا بشيء جديد. ونقول له: ما هكذا تورد الإبل.

2 -العمل الفني: مشوه لأن الشاعر غير واضح في هذا البيت.

3 -الجمهور: أجزم أن الجمهور الذي يتطلع إليه الصيخان لن يعجب بهذا البيت، كما أن الذين أعجبوا بهذا البيت أتصور أن الشاعر لن يهتم بهم أبداً، ولن يفرح بهذا الإعجاب.

4 -الطبيعة: الشاعر هنا أبعد ما يكون عن الطبيعة، وسنتحدث عن الطبيعة هنا بمعناها الخاص لا العام المعتمد على ذكر بعض الأسماء النسائية التي حشاها حشواً مثل «حصة» وغيرها، ليصل في نهاية المطاف إلى «ماني» التي قذفت بالقصيدة إلى مكان سحيق.

لكن... قد يقول قائل: لماذا كل هذا الكلام وبهذه الصراحة ؟. والجواب بسيط وواضح، كان الأجدر بالشاعر ألا يقع في هذا الموقف، وألا يزل هذه الزلة، فلو وقع هذا من شاعر أقل من متوسط لصفقنا له، لأن مجرد الاطلاع على كتابات الآخرين يعتبر انجازاً بالنسبة له، وحركة دفع إلى الأمام، أما هذا الشاعر ،عبدالله الصيخان، فنحن نريد منه الأفضل، والمزيد على الأفضل.

قد يلاحظ أحد من الذين يهتمون أو يتابعون ما أكتب أنني أبتعد عن الهمز واللمز وأجنح إلى تسمية الأشياء وذكر الأسماء. والأمر يعود بكل بساطة إلى رغبتي الصادقة بتهشيم السدود وإذابة الثلوج المتراكمة بيننا وبين الآخرين سواء كانوا شعراء أو متابعين.

إنني أجزم أن هناك طائفة من «الشعبويين» تحاول تكريس هذا المفهوم إما بقصد خبيث قذر أو بغباء مفرط يصعب السيطرة عليه، وعلينا نحن، الذين نعد أنفسنا مثقفين نسبياً، أن نقف في وجه هذا التيار الغوغائي لأنه ضد طبيعة الأشياء.

back to top