الشعر... نظرة ذاتية

نشر في 11-01-2008
آخر تحديث 11-01-2008 | 00:00
 محمد مهاوش الظفيري ذكر الدكتور عز الدين إسماعيل أن عظماء الأدباء قد ألفوا أعمالهم الأدبية العظيمة من دون أن تتاح لهم فرصة لقراءة كلمة واحدة عن التحليل النفسي.

من هذا المنطلق الذي آمنت به قبل أن أطلع على هذا الكلام، كتبت عمن كتبت عنهم من الشعراء سواء الأحياء منهم والأموات، وعلى هذا الأساس فنحن ننظر إلى الشعر من زاويتنا نحن، وقد يقول قائل: إنك لا تدري ماذا تقول؟ بل أنت إنسان تسير في نفق مظلم لا نرى نهاية له، وأنا أقول له: شيء جميل جداً أن يصدر منك أو من أمثالك هذا الكلام، فمن المعروف بداهة أن جميع الناس يطالبون بالحرية أو يدعون إليها، غير أن الذين يصبرون على الأذى ويتحملون المشاق من أجل الوصول إليها قليلون - هذا على سبيل المثال - وهكذا تكون الحال مع الشعر المتميّز .

فكلٌّ يدعي وصلاً بـ ليلى... وليلى لا تقرُّ لهم بذاكا

لهذا سننظر إلى بعض النماذج الشعرية القديمة من هذه الزاوية.

إن الذين كانوا يصفون الناقة - مثلاً - فإنهم كانوا يصفون هذا المخلوق بدقة، مسترسلين بهذا الوصف في محاولة منهم لتفريغ ما بأنفسهم من ذكريات وشحنات عاطفية اختزلتها الذاكرة للمحبوبة، فالأنثى الحيوان (الناقة) تعادل الأنثى الإنسان (المحبوبة)، كما تشير بعض الدراسات الحديثة، وأرى أن الجمل أو الجواد ينسحب عليهما ما يكون عن الناقة، حيث يرى الشاعر نفسه في هذا الحيوان، ففي مجال الإقدام على العدو أو استحضار مشاهد المعركة كان يصف الجواد، أو تحمّل الشدائد أو الصبر على مصاعب الدنيا، كان يصف الجمل.

وهنا نستطيع أن نقول أن هناك علاقة حميمية بين الشاعر البدوي وما حوله من مظاهر الطبيعة ومكونات الحياة.

يقول الشاعر الفارس راكان بن حثلين:

واخلّيَ اللي في محاجر عيونه خيل ٍمشاهير ٍتطارد بأهلها

فالشاعر هنا يرى نفسه في عيون محبوبته مستحضرًا مشاهد المعركة، وممتزجاً بالخيل والفرسان وتطاير الغبار فوق الرؤوس.

يا بكرتي وان جفاك منيف تردين عذفا على ليله

وجهك على مكرمين الضيف شمّر اليا قلّت الحيله

إن قائل هذين البيتين كان يخاطب «بكرته» عندما أعوزه وجود الصاحب لأنه بحاجة إلى الرفيق والأنيس في الرحلة كعادة الشاعر العربي منذ القِدم.

إن هذه العلاقة الحميمية بين الشاعر البدوي والناقة لم نلمسها مع قرينه الذي لامس بعض أهداب الحضارة - كاستخدام السيارة مثلاً - الذي انكبّ على وصف السيارة انكباباً غير مفهوم، ولم يتعامل معها كونها جسماً غريباً قادماً على الحياة العربية، ولم ينفر منها كما نفر الشاعر المصري حجازي من الترام:

لكنني أخشى الترام

كل غريب ٍها هنا يخشى الترام

نعم الشاعر البدوي المتحضر أو «المتحاضر» تعامل مع السيارة تعاملاً غير مفهومن اندمج بها مدقّقاً في بعض التفاصيل، والأمثلة واضحة ويمكن الرجوع إليها عند بندر بن سرور العتيبي، وذلك على سبيل المثال.

فاندماج الشاعر البدوي «المتحاضر» بالسيارة، وتعامله معها هذا التعامل، إمّا لأنه كان يريد الخلاص من الناقة ومن حياة البادية على وجه العموم، أو لأنه شخص بسيط لا يهمه ماذا سيكون في غده؟ لهذا تعامل مع السيارة كوسيلة نقل جديدة أو كأداة من أدوات الخلاص والنجاة، وفي هذا السياق يقول عبهول بن عواد الظفيري :

راكب اللي لا مشى يرطن رطيني صافي ما طورها ما به جرارة

هذا التعامل الدقيق مع السيارة خال ٍمن العلاقة الحميمية التي كانت تربط الشاعر البدوي مع الناقة، وحول هذا الموضوع يقول الدكتور نذير العظمة عن الشعراء الذين ذكروا القطارات والطائرات في أشعارهم أمثال حافظ إبراهيم وأحمد شوقي: «ربما أعطى هذا الغرض مرونة في موضوعات الوصف الجديدة وأغناها بكثير من المفردات، لكنه بالتأكيد لم يخلق لغة شعرية، كان ما فعله هؤلاء الشعراء أن وضعوا الزيت الجديد في الإناء القديم».

إن تعامل الشاعر البدوي مع ما حوله من أسباب الحياة كان ينمُّ عن وعي فطري مجبول هو نفسه لا يستطيع تفسيره أو الوصول إلى أعماقه، ومن ثُمّ الكشف عن علاقات الترادف والتضاد فيما بينها، لا لأنه قاصر عن ذلك أو لأنه يهرف بما لا يعرف، بل لأن الشعر الحقيقي تجربة إنسانية ممتدة يصعب السيطرة عليها أو الإحاطة بها، وهذا ما يؤكد وجود الشعراء وبروزهم في حياة الأمم، برغم هذا السعار المادي على ملذات الحياة المادية.

يقول الشاعر صحن بن قويعان المطيري:

البدو شدوا عن المقطان تفرقوا واخلوا العدّي

شدوا هل الترف يا ضيدان لا والله إنه مهو ودّي

أركض وراهم وأنا حفيان وأشرف على الرجم وأردّي

فتعامُل الشاعر مع «العد» وهو البئر كمظهر من مظاهر الطبيعة نابع من إيمان هذا الشاعر بأن الإنسان كائن اجتماعي بطبعة ودليل على ضرورة التجمع البشري حول منابع أو مساقط المياه، فأينما وُجد الماء كانت الحياة، لهذا فجفاف البئر من الماء ولّد الفراق والترحال كما هو واضح في كلام الشاعر «شدوا - تفرقوا - أخلوا» وكذلك كلمة «شدوا» التي تكررت مرة أخرى في البيت الثاني، ثم ذلك القسم المليء بالحيرة والذي عمّق من حال المأساة والتلاشي والانهزامية أمام قسوة الظروف.

وأمام هذا الإحساس بالعزلة والفراغ العاطفي والشعور بالغربة المكانية والنفسية، تولّدت لدى الشاعر هذه الحركة الانفعالية الارتدادية المتكررة التي جمعها الشاعر في هذا البيت:

أركض وراهم وأنا حفيان

وأشرف على الرجم وأردّي

وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه بأن الشعر الحقيقي تجربة إنسانية قبل أن يكون محاولة لاستجداء أذواق المستمعين، وهذا ما نسعى إليه، وندافع عنه، ونكتب من أجله.

back to top