الشعر لغة فوقية... أم صراع دِيَكة؟!

نشر في 14-06-2007
آخر تحديث 14-06-2007 | 00:00
 محمد مهاوش الظفيري حالة من عدم الاتزان بين العرض والطلب وبين المرغوب واللامرغوب أحدثت خللاً في بنية الوعي بعد تجربة المجلات الشعبية الخليجية، خصوصا أنها قاربت 17 عاما... وخروج أكثر من قناة شعبية قاربت العشر قنوات حتى الآن، وهذا الاهتمام الكبير من القنوات الرسمية والأهلية بالشعر الشعبي، ونجومية الشاعر الشعبي، وحضوره صباحا ومساء ما بين أصبوحة وأمسية، وفي ظل المجلات الشعبية والقنوات التي ضخمت ذات الشاعر، ما مردود هذا على الشعر بشكل خاص، والمجتمع الخليجي بشكل عام؟!

هذا السؤال طرحناه على أكثر من زميل معاصر لتجربة الساحة الحديثة.

الشعر لغة فوقية، وليس كل ما يقال يستحق هذه التسمية، وليس كل شعر جديرا بالاهتمام والمتابعة. إنه انعتاق من حجرية الكلام إلى فضاء اللغة، وسفر بالوعي إلى اللاوعي، ورحيل بالذاكرة إلى ما وراء الذاكرة. الحديث عن الشعر، وعن همومه، صار من الوجبات اليومية التي أصبحنا نتناولها في تجمعاتنا العامة، وفي جلساتنا الخاصة.

ولأن الشعر مرتبط بالعرب ارتباط الحنين بالإبل، انتقل الاهتمام بالشعر من الرواية الشفهية إلى الكتابة التحريرية، أي ظهور صفحات يومية تهتم بالتراث الشعبي، والشعر على وجه الخصوص في الصحافة الخليجية، وصار الناس يتداولونها كالأقراص المهدئة لخلق حالة من التوازن النفسي بين ماضيهم البدوي القريب، وماكينة الحياة المعاصرة، التي جعلتهم يتركون الإبل وركوب الخيل والسير على الأقدام، ويركبون المركبات الحديثة . ثم تطورت هذه الأوضاع من الاهتمام الشفوي إلى الاهتمام التحريري، وتشعبت الأحوال مع بزوغ عالم المجلات الشعبية كالغدير التي حملت هذا اللواء التطويري، ثم تبعتها فيما بعد المختلف، ومن بعدها فواصل، حتى عجت الأسواق بالمجلات الشعبية.

هذا الأمر خلق حالة من عدم الاتزان بين العرض والطلب، وبين المرغوب واللا مرغوب، مما أحدث خللا في بنية الوعي مع الشعر وفي التعاطي مع التراث، وقللت من المحتوى الحقيقي للشعر ، إذ صار يُشار بالبنان والتميّز لهذا الشاعر أو ذاك، وهو في الحقيقة لم ينشر إلا النص أو النصين أو الثلاثة نصوص، إذا استثنينا عامل المساعدات الخارجية، أو الدعم اللوجستي الذي يلقاه هذا الشاعر أو ذاك من صاحب هذه المجلة أو تلك في تعديل بعض النصوص قبل ان يصير عَلَماً يضاهي أمير الشعراء أحمد شوقي في زمانه أو المتنبي في عزّ مجده .

ثم جاءت القنوات الفضائية، ودخل الشعر الشعبي عالم الفضاء والبث المباشر، وانتقل الشاعر من ناقته القصواء و ( ذلوله الأملح ) لامتطاء أحد الأقمار الصناعية الطائرة في الفضاء الخارجي . لقد زادت هذه القنوات من تضخيم الذات ونفخ المحتوى الأجوف، دون الاهتمام بجدية ما يُطرح من شعر، حيث نلاحظ أن أغلب النصوص المطروحة هزلية ( من الهُزال لا الهَزَل ) من شعر غزلي مباشر وكلام تقريري خالٍ من أي هموم إنسانية أو سياسية أو قومية، والبعيد عن أي إسقاطات ترفع من القيمة الفنية للنصوص، وتمنحها حركة أمامية في مجال الوعي والإبداع.

انتكاسة نفسية

نعم ... انسلخ ابن الجزيرة العربية من ماضيه العروبي الرحب الواسع، في إسقاط واضح ومدروس او غير مدروس لبناء الدولة الحديثة وضرورة الانتماء لها. إن المتتبع لأحداث غزو دولة الكويت من قِبَل جارتها وشقيقتها دولة العراق، وما وافق هذا الغزو من شرخ عربي / عربي حاد، أدى إلى انعكاسات سلبية على المجتمع الخليجي، وظهور إلى السطح عقدة النفط، مما ولّد لديه شعوراً بالنفور من العربي الآخر، حيث شكل هذا الإجراء انتكاسة نفسية وردة شعرية، جعلت المواطن الخليجي والشاعر على وجه الخصوص يتقوقع على نفسه، وينكمش حول ذاته، الأمر الذي جعل هذا الوضع من أن تتشظى المنطقة إلى جزر مائية صغيرة لا يربط بينها رابط إلا الماء، الذي يقوم مقام اللغة، بعد أن تراجع الإحساس بالوطن لحساب القبيلة .

لو نظرنا إلى واقع الشعر زمن مرشد البذال ومحمد بن احمد السديري، مرورا بسليمان الهويدي وطلال السعيد، وانعطافاً على رواد مدرسة التجديد أيام الثمانينيات، كما عند بدر بن عبد المحسن وفهد عافت ومسفر الدوسري ونايف صقر وصالح الظفيري وسليمان المانع والحميدي الثقفي وعواض العصيمي وناصر السبيعي وفهد دوحان، نرى أن كل هؤلاء، ومن كان يعاصرهم، كانوا يكتبون الشعر بلغة وسطية، ترتفع فوق الكلام العادي المتداول، وتقل درجة أو درجتين عن مستوى اللغة العربية الفصحى، وكأنهم أوجدوا لغة شعرية نموذجية للتداول الشعري فيما بينهم، ترتقي فوق الأعراق والفئويات الصغيرة . أما ما يُطرح هذه الأيام من شعر،سواء في المجلات الشعبية أو القنوات الفضائية المهتمة بالشعر الشعبي، فنلاحظ استهتارا وتشظيا حادا، حتى ان البعض من الشعراء هذه الأيام، وبسبب كثرة التشويش الذي نسمعه من خلال قصائدهم، فإن المرء بحاجة الى اكثر من جهاز لتصفية الصوت، يعمل في وقت واحد حتى يتمكن الإنسان من سماع ما يقول هؤلاء الشعراء بوضوح .

أسماء جميلة

إن هذه الردة الشعرية إلى الوراء، أثّرت على الشعر وعلى المجتمع، وكل شيء كَثُرَ مريدوه فَسَد، مما ترتب على هذا الوضع انزواء شعراء كثيرين وجميلين عن تصدر واجهة المشهد الشعري، كبدر بن عبد المحسن وفهد ومسفر الدوسري وعواض العصيمي، وغيرهم، وغيرهم من الأسماء الجميلة التي كانت لها بصمتها الواضحة في الحركة التجديدية في الشعر الشعبي، وحتى الأسماء الجديدة من بعض الشعراء كدامث الرويلي وعاطف الحربي وطلال بجاد، ليس لهم أي وجود في هذا المجال هذه الأيام وهذه الفوضى التي تجتاح القنوات الفضائية تحت مسمى الشعر والاهتمام بالتراث ، جعلت جميع الناس يفهمون بالشعر، وكما قلنا سابقًا، الشيء إذا كَثُر مريدوه فَسَد، ولا دور يذكر للمهتمين بهذا المجال، لأن التعقل بين الحمقى جنون، والتحذلق بين الجهلاء سفاهة، فالجميع قادر على النقد ، ومن ثَمّ التوجيه، باعتبار أن الشعر كلام ــ وليس كل كلام شعراــ حتى عند أولئك الذين لا يعرفون الفرق أو لا يمكنهم التفريق بين الوزن والقافية، فهذا الوضع الجديد خلق انقسامات في المجتمع على أسس لا علاقة لها بالشعر، وأعاد الناس إلى زمن النقائض، والفخر بالقبيلة، والدوران في ملكوت الذات، والتي أشعلتها تناحرات شعراء المحاورة، وهم حقيقة مثل أبطال المصارعة الحرة الذين يجيدون فن إثارة الجمهور والضحك على الذقون، في الوقت الذي متفقون فيه هم فيما بينهم كل الإتفاق، حتى على توزيع الأدوار بالتلاعب بالقطيع، فهذه الأجواء المحاوراتية أعاد الجميع إلى المربع رقم واحد، قبل أن يقتلع الجميع برنامج شاعر المليون، والذي بعثر الاوراق والغى الحدود بين الدول، الأمر الذي أدى إلى انحسار الوطن مقابل القبيلة .

إحساس فطري

وحتى لا نستغرق في الدفاع عن الوطنية على حساب أمور غير منظورة في الوقت الراهن،أو غير مجيدة عقلانيا، أو لا يمكن تصورها على أدق تعبير . فقد يكون في محاولات البعض بالعودة إلى القبيلة إحساس فطري دافعه الحدس والخوف من المجهول، بعد تشظّي بعض الدول المجاورة، وذوبان أنظمتها الحكومية الرسمية، أو ان هذا الأمر موجه عبر الاستشعار من بُعْد، لإعادة بناء النسيج الاجتماعي لضرورة مقاومة أي زعزعة أمنية للأوضاع الراهنة في ضوء الحشودات العسكرية، والأزمات التي تعصف بالمنطقة.

فأثناء هذه الظروف التي تجتاح المنطقة من تدخلات أجنبية، سواء ذات الطابع الاستعماري المباشر، أو ذات الاستحقاقات التاريخية وتصفية الحسابات النفسية، قد نجد للذين يحاولون إيجاد نوع من العودة للأجواء القبائلية، شيئاً من التبرير في إمكان إعادة بناء لحمة المجتمع والمنطقة من القبيلة، كونها أول مقومات الوحدة الوطنية، لكن على أن يتم التعامل مع هذا الجانب بحذر، ووفق مهارة سياسية، وحس وطني واقليمي وقومي عام، يوازن بين الأولويات والمصالح، ولا يخلط بين الأوراق، ويجعل المصلحة المرجوة، هي ضرورة مقاومة الخطر القادم من الشرق المهدد لهويتنا الثقافية، أو الإعصار القادم من الغرب الذي سيقتلعنا جميعاً من جذورنا، ويمضي بنا إلى مكان سحيق، لا ساحة للتناحر والتباغض وتصفية الحسابات وصراع الدِّيَكة .

back to top