ما قل ودل: ترامب والانقضاض على أساس النظام العالمي الجديد وعلى ديموقراطية بلده (2-2)
تناولت في المقال السابق كيف أصبح هذا الأساس في مهب الريح، بما أحدثه ترامب في العالم أجمع، من انقضاض على قيم هذا النظام وفي أميركا ذاتها بالنسبة إلى الحريات بوجه عام، وحرية البحث العلمي في الجامعات بوجه خاص، تحت شعار حماية السامية (الصهيونية).
وقد تطرقت إلى أن ترامب ليس نبتة بغير جذور، فالتاريخ لا ينسى إبادة الهنود الحمر وإلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناغازاكي، والحرب العالمية على وشك الانتهاء، والمحرقة الفلسطينية منذ تقسيم فلسطين وحتى الآن في حرب غزة.
كما تناولت حماية الأمن القومي العربي، ووجوب وقوف الأمة العربية كلها صفاً واحداً خلف المملكة العربية السعودية في الزيارة المرتقبة لترامب.
أميركا نمر من ورق
وهو وصف يصف به بعض مؤرخي تاريخ أميركا في حروبها التي خاضتها سواء في الحرب العالمية الثانية، أو بعدها في فيتنام، أو تمرسها على القيام بانقلابات داخلية في الدول التي لا تخضع لسيطرتها وهيمنتها كبديل لاحتلالها أو غزوها.
1– هجوم ساحق ونصر زائف
وكان الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر قد أدى إلى تدمير معظم الطائرات الأميركية على أرض المطار، وتدمير ثلاثة طرادات، وبعض القطع البحرية الصغيرة الأخرى، كما عطَّل نحو نصف السفن البحرية الأميركية عن العمل، كما قتل في هذا الهجوم 2340 رجلا، وبلغ عدد المفقودين نحو 960، وعدد الجرحى نحو 1270.
وبقدر ما كان الهجوم الياباني على بيرل هاربر ساحقاً ومدوياً ومستفزاً، وبقدر ما كان إلقاء أميركا للقنبلتين الذريتين مدوياً أيضاً، بل ومرعباً ومروعاً.، غير أن الأول كان نصراً عسكرياً لليابان ساحقاً لأميركا، وكان الثاني نصراً زائفاً، وقد أوشكت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء، وعلى المدنيين الذين لم تكن لهم ناقة أو جمل في هذه الحرب، وأخلاق الحرب التي لا تعرفها أميركا كانت تقتضي أن يكون الرد على قاعدة عسكرية يابانية، فلم يستفزها الهجوم الياباني، لتدخل الحرب العالمية الثانية وتنالها بشرف واقتدار، كما فعلت روسيا بالهجوم السوفياتي على الجيش السادس الألماني واستسلامه في 2 فبراير 1943، وجاء الانهيار الألماني عندما التقى الحلفاء الغربيون والسوفيات في تورغاو (25 أبريل 45)، وكان الحلفاء قد ألحقوا هزائم متتالية بالألمان في معركة العلمين (أكتوبر 42)، والجزائر (نوفمبر 42)، وتم تطهير شمال أفريقيا من قوات المحور في مايو 43، وسقطت روما في يد الحلفاء (يونيو 44)، حيث تشارك القوات المصرية في العرض العسكري خلال هذه الأيام في الساحة الحمراء بموسكو، بمناسبة الذكرى الثمانين للنصر الذي حققه الحلفاء، في حضور رئيس مصر، الذي وجهت إليه الدعوة وإلى القوات المسلحة المصرية.
واستطاع الحلفاء الإنزال الجوي في فرنسا لتحريرها (يونيو وأغسطس 44)، وتحرير باقي أوروبا، وعلى هامش هذه الانتصارات الكبيرة للحلفاء، كان دخول أميركا الحرب على استحياء باحتلال غرينلاند (أبريل 41)، والمشاركة في احتلال آيسلندا في العام ذاته، ولم تستفزها الهزيمة العسكرية في بيرل هاربر، وعلى النقيض كان النصر الياباني في هذا الميناء حافزاً لليابان على غزو الفلبين والملايو وبورما وإندونيسيا وعدد من جزر المحيط الهادئ، وقد كان لأميركا طموحات خاصة على صعيد هذا المحيط.
2– هزيمة أميركا في فيتنام
كما كانت هزيمة أميركا في فيتنام مريرة وقاسية على الأميركيين، عندما ورثت أميركا الاستعمار من فرنسا في الهند الصينية، لكنها أجبرت على الانسحاب بعد هزيمة بشرية ومادية هائلة، فكانت هذه الهزيمة درسا قاسيا لها، تعلمت منه ألا تجازف بفقدان هيبتها وهيبة ترسانتها العسكرية في حروب تكلفتها باهظة مادياً وبشرياً عليها، وذلك باستخدام كل البدائل الأخرى للسيطرة على العالم.
3- العدوان على الديموقراطية بالانقلابات
ولقد لعبت أميركا لعبة الانقلابات في أميركا اللاتينية (الجنوبية)، التي كانت على فوهة ثورة ديموقراطية تقدمية عامة، وذلك من خلال المؤامرات التي دبرتها المخابرات الأميركية المركزية في الأوروغواي وفي بيرون وفي بنما وفي بوليفيا، كما دبرت المخابرات الأميركية انقلاباً عسكرياً دموياً، إثر انتخابات عامة فاز فيها الليندي برئاسة جمهورية تشيلي، حيث أطاح الانقلاب به وبحكومته عام 1970، كما تراجعت الأرجنتين عن مسيرتها الديموقراطية التقدمية بفعل دسائس ومؤامرات المخابرات الأميركية.
ويبدو أن أميركا استمرأت التهديد بالانقلابات العسكرية في دول آسيا وإفريقيا إلا أن هذا التهديد يبدو قصياً عن الجادة عصياً على التقبل في أوروبا الغربية، حيث استقرت المؤسسات الديموقراطية بها بما يعصمها قدر الإمكان وإلى حين من هذه الانقلابات، فأعلن ترامب في مواجهتها حرباً تجارية (الحرب العالمية الثالثة)، والتي تشمل العالم كله.
كما طالبت أميركا أوروبا بأن تدفع ثمن حماية أميركا لها، من خلال ما قدمته أميركا في عهود الرؤساء الأميركيين السابقين من مساعدات مالية وعسكرية لحلف الناتو.
الأحلاف العسكرية
وجدير بالذكر أن أسلوب التحالف الجماعي العسكري قد ابتدعته واتبعته الولايات المتحدة الأميركية في أوروبا الغربية، حين أبرمت حلف الأطلنطي في 4/4/1949، واتبعته في آسيا بعقد جنوب شرقي آسيا في 2/9/1954، مما اضطرت معه روسيا السوفياتية إلى إبرام حلف وارسو في 14/5/1955، ولم تنجح أميركا في إدخال إسبانيا في حلف الأطلنطي أمام رفض دول الحلف فأبرمت معاهدة عسكرية ثنائية مع إسبانيا في 26/9/1953، كما أبرمت تحالفاً مع اليابان في 8/9/1951.
ومن هنا كان انقضاض ترامب على حلف الناتو أمراً غريباً وغير مفهوم إلا في المبرر الذي أقام عليه ترامب فلسفته وسياسته في التخفف من أعباء مالية كانت تتحملها أميركا في هذا الحلف لتعود أميركا غنية كما كانت! ولتذهب عظمة أميركا وقيادتها للعالم إلى الجحيم، فهي بترسانتها العسكرية التي تفوق حتى الخيال العلمي قادرة على الاحتفاظ بهذه القيادة بالتخويف والترويع.
(للمزيد يرجى الرجوع إلى «الأحلاف العسكرية» بقلم الدكتور بطرس بطرس غالي – ملحق الأهرام الاقتصادي نوفمبر 65).