ما قل ودل: ترامب والانقضاض على أساس النظام العالمي الجديد وعلى ديموقراطية بلده (1-2)
عمد الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الانقضاض على أساس النظام العالمي الجديد، ذلك أن أساس هذا النظام، بعد إنشاء الأمم المتحدة، ومناداتها بتصفية الاستعمار القديم، طبقاً لبرنامج الرئيس الأسبق ويلسون في مطلع عام 1918، بات يقوم على حرية التجارة والملاحة ونشر الديموقراطية وارتداء مسوح الرهبان بنشر هذه الديموقراطية والاعتراف بحقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وقد أصبح كل ذلك في مهب الريح منذ أعلن ترامب الحرب العالمية الثالثة (التجارية)، بالتعريفات الجمركية، لكي تعود أميركا غنية!
ومنذ أعلن حربه على البحث العلمي في الجامعات، تحت شعار حماية السامية، ومنذ قرر ترحيل المهاجرين إلى السلفادور، ويجري التفاوض مع ليبيا ومع غيرها من الدول لترحيلهم إليها... والمظاهرات الشعبية تجري في كل الولايات بأميركا لحماية أمنها الديموقراطي، ومع ذلك يُخطئ من يظن أن ترامب ظاهرة جديدة، سواء على المستوى الداخلي، في أميركا أو على مستوى العلاقات الدولية، يرزأ بالانقضاض على هذه المبادئ والمقومات، وبالعنف والدموية، كما في الأمثلة التالية:
ويخطئ من يظن أن ترامب نبت بغير جذور، فجذوره تمتد إلى نشأة أميركا، بعد إبادة الهنود الحمر، سكان البلاد الأصليين، بزعم أن «المهاجرين للقارة الأميركية هم شعب الله المختار، كما أطلق عليهم هذا الوصف البابا بولس، وقتئذ، وأن إبادة الهنود الحمر هي تنصير لهم». (روجيه جارودي - الاستعمار الغربي).
فالعقيدة الأميركية والعقيدة الصهيونية، صنوان لا يفترقان، لذلك اجتمعت العقيدتان على التمييز العنصري، والتفوق العنصري لكل من الشعبين، وكل من الدولتين، على سائر الشعوب، وعلى سائر الدول، وإن اختلفت الوسائل وتغايرت الأساليب في الأمكنة والأزمنة.
وفي الوقت الذي ذرفت، ولا تزال أميركا، تذرف دموع التماسيح على المحرقة النازية لليهود، أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، فإن أميركا لم تتورَّع، وهذه الحرب على وشك نهايتها، عن إلقاء قنبلة ذرية على السكان المدنيين في هيروشيما في 6/ 8/ 1945، وأخرى على ناغازاكي في 9/ 8/ 1945، أشد وقراً وأخطر أثراً، من المحرقة النازية لليهود، وقد امتد الإشعاع الذري لهاتين القنبلتين من جينات الذين لم يلقوا حتفهم فور إلقائهما إلى أجيال متعاقبة، وهو ما لم تُحدثه المحرقة النازية، فمن بقي من اليهود على قيد الحياة، بعد هذه المحرقة، هاجر إلى أميركا وإلى أوروبا، ومع ذلك حصلت إسرائيل على تعويضات مالية كبيرة من ألمانيا الغربية في عام 1952، وقد كانت على وشك الإفلاس، بعد استيعابها للآلاف من المهاجرين من شتى أنحاء العالم، بإسكانهم وإعاشتهم، وعلى تعويضات أخرى في عام 1965.
ولم يكن إلقاء أميركا هاتين القنبلتين إلا انتقاماً من اليابان التي دمَّرت طائراتها قاعدة عسكرية لأميركا في المحيط الهادي، هي ميناء بيرل هاربر، قبل أربع سنوات في 7/ 12/ 1941.
وسلَّم نصر أميركا الزائف على المدنيين في هيروشيما وناغازاكي قيادة النظام العالمي الجديد إلى أميركا بلا منازع، ليصدر النظام العالمي قرار الأمم المتحدة في نوفمبر 1947 بتقسيم فلسطين، وإنشاء وطن لليهود فيها، وليكتسب احتلال فلسطين شرعية دولية لم يكتسبها أي احتلال آخر، بموجب قرار دولي، وليعقب هذا القرار الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى (1948)، لتكتسب إسرائيل شرعية أخرى، لمزيد من الأراضي تزيد على ضعف ما نالته بقرار التقسيم، وهي المسرحية الهزلية التي شاركت فيها بعض الدول العربية التي كانت تحت الاحتلال البريطاني أو الانتداب الفرنسي، بجيوشها التي دخلت فلسطين في 15/ 5/ 1948 دون تنسيق بينها أو مباغتة بإعلان مسبق لحرب جرتها إليه المجازر الإسرائيلية للفلسطينيين في دير ياسين، وغيرها، والغضب الشعبي العربي العارم لهذه المجازر، وقد أعلنت هذه الحرب في أبريل (1948) بعد 3 أيام من مذبحة دير ياسين، وقد كانت في الواقع مسرحية هزلية دبرها بليل النظام العالمي، إلا أنه أصابه الذهول من هول المفاجأة، وهي اجتياح هذه الجيوش العربية الأراضي الفلسطينية وتحرير الكثير منها في أسبوع واحد، فتدخل النظام العالمي لفرض هدنة بالتهديد والوعيد، بعد أن رفضها العرب، وقد كانوا تحت الاحتلال والانتداب (وسوف نفرد مقالاً لهذه الحرب إذا كان في العمر بقية).
ولا تعدو حرب غزة أن تكون من الأعمال القذرة التي تمارسها إسرائيل بشكل شبه دائم لحساب الولايات المتحدة الأميركية، فهدفها أبعد من محيطها الإقليمي الضيق في غزة ورفح والضفة، إنها تشمل الوطن العربي كله من المحيط إلى الخليج، والأمة الاسلامية لكسر شوكة العرب والمسلمين، وتحطيم معنوياتهم، وإثارة الرعب في قلوبهم، وإسرائيل تدك بالسلاح العسكري الأميركي اليمن ولبنان وسورية، وأي بقعة في هذا الوطن أو هذه الأمة فيهما نظام يتنفس الصعداء.
وهي مسؤولية الشعوب والحكومات العربية، وفي وقت قد تسول لترامب نفسه تهديد هذا الأمن بلعبة الانقلابات الداخلية في الدول التي لا تخضع للهيمنة الأميركية وسطوتها في عهده، إلى جانب ما تتعرض له هذه الدول من ابتزاز مالي، فقد بات على تلك الشعوب العربية مسؤولية التكاتف لحماية جبهتها الداخلية من الاختراق أو تهديد وحدتها والتسبب في بيع أوطانها في سياق هذه اللعبة الأميركية.
كما أن حماية الأمن القومي العربي مسؤولية الحكومات العربية مجتمعة، لكي تتكاتف وتقف خلف المملكة العربية السعودية وقفة رجل واحد تؤيد سمو ولي عهدها لدى زيارة ترامب المرتقبة للمملكة في الثالث عشر من الشهر الجاري، وأرجو أن تكون زيارة رئيس مصر إلى الكويت والاستقبال الأسطوري له في هذه الزيارة ضمن سياق ما يمكن إعداده وترتيبه من خطوات وتفهم مشترك في مواجهة زيارة ترامب، وما قد تحمله من مفاجآت، منها إقامة قاعدة عسكرية أميركية في تيران وصنافير، لحماية الملاحة التجارية من غارات الحوثيين، وأقترح في هذا السياق ما يلي:
1 – أن تبادر الدولة اليمنية في صنعاء إلى طلب السلام مع المملكة العربية السعودية قبل هذه الزيارة، وأن تسعى سيراً حثيثاً لعقد هذه المعاهدة، وأن يتعهد الحوثيون فوراً بوقف غزواتهم للسفن التجارية.
2 – أن تعقد قمة عربية وأخرى خليجية، سواء كانتا منفصلتين، أو كانت القمة الخليجية على هامش اجتماعات القمة العربية، لكي تقف الأمة العربية خلف المملكة العربية السعودية في هذه الزيارة المرتقبة، وفي تحديد مقدماتها ومقوماتها ونتائجها، كما فعلت الأمة العربية كلها في سنة 73، وعلى رأسها الملك فيصل الراحل، تغمده الله برحمته، حينما حققت هذه الأمة بتلك الوحدة نصرها العظيم في هذه الحرب.
وللحديث بقية حول ما يردده بعض المؤرخين في تاريخ أميركا العسكري من أنها نمر من ورق.