من صيد الخاطر: قَلَبَ لَهُ ظَهْرَ المِجَنِّ
«قَلَبَ لَهُ ظَهْرَ المِجَنِّ»، مثل عربي قديم يقال لمن كان لصاحبه على موَدَّة ورعاية ثم حَالَ عن العَهْد، وانقلب عليه، و«المِجَنّ» هو الدرع أو الترس، والقول رمزي، فقلب ظهر الدرع هو قول يدل على خيانة ما، أو تغيير عهد تم الاتفاق عليه، مما يقلب الموازين ضد من اعتمد عليه.
«قَلَبَ لَهُ ظَهْرَ المِجَنِّ»، تشبيه في الثقافة العربية القديمة، ويعكس صورة من الحياة الحربية القديمة التي عاشها الأوائل، فالمَجَنّ كان أداة ورمزاً وحماية للمقاتل، يصد به ضربات عدوّه، ويحمي به غيره، فعندما يقلب المحارب درعه لخصمه، فهذا يعني استسلامه له، أو خيانته لمن كان يفترض أن يدافع عنه، ولهذا يشبه الخائن أو الغادر أو المنقلب، أو من يغيّر ولاءه، أو يتنكر لمن عاهده بأنه كالمِجَنِّ المقلوب.
الشاعر الأحوص قال في ذلك:
قلبتْ لي ظهرَ المجنِّ فأمستْ
قدْ أطاعتْ مقالة الأعداءِ
أما الشاعر أسامة بن منقذ فقال:
أحين خَلَبْتنَي وملكتَ قلبِي
قلبت لخلتي ظهر المجن
أما الشاعر الشنفري، وهو أحد الشعراء الصعاليك، فقال في بيت واصفاً فيه قسوة قلبه وشجاعته:
وَقَلْبٍ لَهُ ظَهْرَ المِجَنِّ إِذَا مَا
تَخَطَّى بِهِ الذُّعرُ الذُّعَار تَقَلْقَلا
طبعاً الشنفري هنا بالغ كثيراً في قوته وصلابته وجرأته، واصفاً نفسه بأنه لا يذعر من الخوف، بل الخوف هو الذي يرتعش أمام شجاعته، ويُعتبر هذا البيت من أشهر ما قيل في الفخر بالشجاعة في الشعر الجاهلي.
وراء مثل «قَلَبَ لَهُ ظَهْرَ المِجَنِّ» رواية تاريخية لا نجزم بصحتها، فيقال إن الخليفة علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، قاله لأحد المقربين منه عندما أخذ من مال البصرة ما أخذ: «إني شَرَكْتُكَ في أمانتي، ولم يكن رجل أوثق منك في نفسي، فلما رأيتَ الزمان علّي قد كَلِبَ، والعدو قد حَرِبَ، قَلبْتَ لي ظَهْرَ المِجَنِّ»، لفراقه مع المفارقين، وخَذْله مع الخاذلين، «واختطَفْتَ ما قدرت عليه من أموال الأمة اختطاف الذئبِ الأزَلّ رابيةَ المِعْزَى، اصْحُ رُويداً فكأن قد بَلَغْتَ المَدَى، وعُرْضَتْ عليك أعمالُكَ بالمحل الذي يُنادى به المغتَرُّ بالحسرة، ويتمنَّى المضيِّعُ التَّوْبَةَ والظالِمُ الرَّجْعَةَ».