من صيد الخاطر: «أَغْوَى مِنْ غَوْغَاءِ الْجَرَادِ»

نشر في 26-12-2025
آخر تحديث 25-12-2025 | 19:38
 طلال عبدالكريم العرب

«أَغْوَى مِنْ غَوْغَاءِ الْجَرَادِ»، و«أَغْوَى» هنا لا علاقة لها بالغواية والضَّلال، بل تعني الأكثر جلبة، أو الأكثر في جموعها اختلاطاً واضطراباً. أما «الغَوْغَاء»، فكلمة تُطلق على الجَرَاد إذا ماج بعضُه في بعض قبل أن يَطِير، أي «الدَّبَى» الذي هو الجراد الصغير قبل أن تنبت له أجنحته، فهو يغطي الأرض لكثرته، ويتحرَّك إلى الأمام قفزاً في جموع. وقِيل أيضاً إن «الغَوْغَاء» هي حشرة ضعيفة شبيهة بالبَعُوض، إلا أنها لا تلدغ ولا تؤذي.

لهذا تُطلق كلمة الغوغاء على الناس حين يخرجون إلى الشوارع في جموعٍ محتجة صاخبة يغلب عليها الجهل، فهي لا تدري لماذا خرجت، يموج بعضهم في بعض، حتى يختلط حابلهم بنابلهم.

فـ «أَغْوَى مِنْ غَوْغَاءِ الْجَرَادِ» تعبيرٌ يصف كيف يمكن للكثرة أن تتحوَّل إلى مصدرٍ للإزعاج والفوضى إذا غاب عنها الهدف والنظام. 

الشاعر قال واصفاً هذا الوضع:

يَمُوجونَ في الأَرضِ مَوْجَ الجَرادِ

وَيَمضونَ في الغَيِّ بَيْنَ العِبَادِ

شاعر آخر وصف الجموع الغفيرة لكثرتها وكأنها جراد، قائلاً:

وَتَرَى لَهُ عِنْدَ الصَّبَاحِ عَجَاجَةً

مِثْل الْجَرَادِ غَدَتْ بِسَاحَةِ مَرْجَدِ

الله سبحانه وتعالى شبَّه حركة جموع البشر المرتبكة وهي في حالة فزعٍ وذهول عند الحشر وكأنها جرادٌ منتشر، فقال: «خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ». فالجراد يتحرَّك ككتلة هائلة تغطي الأفق بلا تنظيم.

الجراد «الغوغائي»، وهو يتقدَّم في جموعه الهائلة، يأكل وهو في طريقه الأخضر واليابس، مُدمراً الزرع. وكذلك يفعل «الغوغاء» من البشر، فهم يسلكون مسلك الجراد، فالكل ينجرف في جموعٍ تقرر مسارها، تتقاذفهم العواطف من دون إدراك عقلاني لما يفعلونه أو يهرجون به.

جموع «الغوغائيين» سُرعان ما يخرجون عن السيطرة، ويتحوَّلون في ضجيجٍ مزعج إلى قوةٍ تدميرية وتخريبية للممتلكات، التي هي ممتلكات بلدهم وشعبهم، ويقومون بأفعالٍ جماعية لا يمكن لأي فردٍ منهم أن يفعلها بمفرده.

وقد قِيل في ذلك: «في لجة هذا الزحام، تبرز قيمة الفرد القدوة، فبينما يذوب الغوغاء في بعضهم البعض، يبقى الرجل الحكيم كـ (الراحلة) في مئة من الإبل، إنه نادر الوجود، لكنه عظيم النفع». 

الخليفة علي بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه، قال ناصحاً: «لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فالحق لا يُعرف بكثرة الضجيج، بل بنور الحجة».

أما الشاعر، فقال:

وَمَا تَفْعَلُ الغَوْغَاءُ بِالعَقْلِ إِنْ طَغَتْ 

كَمَا يَفْعَلُ السَّيْلُ العَرِمْ بِمَا بَنَى

وأما الحكيم، فقال: «كُن في الزحامِ بَصيراً، ولا تكن في الغوغاءِ صغيراً، فالجرادُ على كثرته يُباد، والنحلُ على قلته يُهاب». 

فالغوغاء إذا اجتمعت كانت قوةً تدميرية، وإذا تفرَّقت لم تُفتقد. لذا، كان ميزان العقل يقتضي أن يترفَّع الإنسان بنفسه عن أن يكون «رقماً» في قطيع، أو «صوتاً» في جلبة لا تُفهم.

back to top