المواطن «كاف»: الحيلة والعِلّة

نشر في 19-12-2025
آخر تحديث 18-12-2025 | 17:33
 سليمان البسام

المواطن «كاف» ساذج العقل، طيب القلب، يُصنِّف نفسه - دون تردد - مواطناً صالحاً بكل معنى الكلمة. لا يهوى المخالفة، ولا يأنس بفكرة التمرد، بل يجد في الالتزام بالقانون طمأنينة روحية أقرب إلى العبادة الصامتة. إلا أن تكاثر القوانين في الآونة الأخيرة أصابته بالأرق، فبات يقضي لياليه محاولاً تكييف كل تفاصيل حياته اليومية لتنسجم مع التعليمات التي تنهال عليه كالمطر.

تذكر، فجأة، رحلته الأسبوع الماضي إلى مدينة «دال»، كان البرد قارساً، فاحتسى شاي بابونغ. لحظتها أحس بدوخة خفيفة، لم يعرها اهتماماً في حينه، لكن منذ ذلك اليوم لم يعد النوم يطاوعه. ماذا لو كان في ذلك الشاي - لا سمح الله - شيء آخر؟

ثم داهمته ذكرى أشد فظاعة.

خلال الانتظار في المطار، فتح حديثاً عابراً مع أحدهم - وهو تصرف يراه الآن مريباً بحد ذاته - فعرض عليه ذلك الغريب علك «أبو سهم». ولماذا يتحدث أصلاً مع غرباء؟ ولماذا يقبل علك من شخصٍ لا يعرفه؟ وفي مطار؟ وفي زمنٍ كهذا؟ والأسوأ من ذلك: وضع العلك في فمه، وظل يمضغه لساعات طويلة، مثابراً كالثور. ماذا لو لم يكن ذلك علك «أبو سهم» أصلاً؟ ماذا لو كان «قات» أو شيئاً آخر يتنكر على هيئة علك «أبو سهم»، ويتربص بالمواطنين الصالحين؟

هنا قرر بكل حزم أن يذهب إلى المستوصف لطلب فحص لدمه.

ثم تذكر، على الفور، أنه ليس على اطلاعٍ كامل بقانون المرور الجديد وتعديلاته، ولا يعرف إن كان الطريق إلى المستوصف آمناً من الناحية التشريعية. فعدل عن الفكرة، وقرر أن يطلب ممرضاً يأتيه إلى المنزل لفحص دمه. ثم انغمس في دوامة البحث على الإنترنت:

هل يمكن إخفاء مواد مخدرة في علك «أبو سهم»؟

وبين سؤالٍ وآخر، ارتعد خوفاً من أن يطلع أحداً ما على سجل بحثه على الإنترنت، ماذا لو فُسرت نواياه على غير حقيقتها؟ ماذا لو بدا - في نظر الخوارزميات - شخصاً فضولياً أكثر من اللازم؟

فألغى موعد الممرض، وأغلق اللابتوب، وبقي أسير فراشه، يحدق في الستارة المتدلية أمامه، والتي بدت له - مع تقدم الليل - كجثة تتدلى على مقصلة.

ندم «كاف» أشد الندم على ما اقترفه من أفعال، وهو يلهث بحثاً عن حِيَلٍ لعلاج العِلل، حتى انتهى به الأمر حائراً من نفسه، إذ بدا له، في لحظة صفاء قاسٍ، أنه ليس سوى المواطن «كاف»: الحيلةُ والعِلّةُ في آنٍ واحد.

* كاتب ومخرج مسرحي

 

back to top