ريستارت للحياة: إن سقطت الواسطة... ارتفع الوطن

نشر في 12-12-2025
آخر تحديث 11-12-2025 | 19:26
 أميرة الحسن بسم من تقدّست أسماؤه عن رشا الوصلاء، وتعالت حجته عن حاجة إلى الشفعاء.
ثمة ألم يخترق القلوب حين نرى كفاءات وطنية جدت واجتهدت ليل نهار لتنهض بذاتها وبأوطانها، ثم تُهدر آمالها فجأة تحت ركام المحسوبية التي تعصف بأقوى ركائز نهضتنا. ولأن كل شيء قابل لإعادة التشغيل حتى نحن. في كل أسبوع نأخذ لحظة تأمل، نراجع فيها عادة أو فكرة أو علاقة، ونسأل أنفسنا: هل نستمر فيها؟ أم نضغط زر «ريستارت» ونبدأ من جديد؟ واليوم نقف أمام ملف خطير يمس حاضرنا ومستقبلنا: ثقافة «الواسطة» والمحسوبية التي تجاوزت كونها ظاهرة عرضية لتتحول إلى منهج حياة، بل وفلسفة وجودية تشوه مسار المجتمعات، وتقتل روح الإبداع فيها.
أترانا ندرك حق الإدراك أننا حين نلتمس الواسطة لقضاء حاجة، لا نقضي حاجة فحسب، بل نهدم بأيدينا قصر الحق لنقيم على أنقاضه خيمة المنفعة العابرة؟ أترانا نعي أن تقديم القريب على الأكفأ ظلم مزدوج؛ ظلم للكفاءة المهدرة وظلم للوطن المحروم من الفائدة الحقيقية؟ لقد بات هذا الداء يعلمنا منذ الصغر أن الحق لا يُنال بالاجتهاد، بل يُستجدى بالوسيلة، فينشئ فينا شخصية منقسمة: في المساجد ندعو بـ (يا مقلب القلوب)، وفي واقعنا نعمل بـ (يا مقلب البطاقات). نرفع أصواتنا ضد الفساد ونحن أول من يطرق باب المعروف إذا مستنا الضائقة.
اليوم تقف الأمة على مفترق مصيري: أتستسلم لقانون الأقوى، أم تنهض لتحيي سنة الأكفأ؟ إن وضع الشخص المناسب في المكان المناسب ليس مجرد نظرية إدارية إنما واجب وطني وأخلاقي تؤكده الدساتير وتقره الشرائع قبل أن يصوت عليه البرلمانيون. إنه عماد بناء الحضارة، وسر بقاء الأمم، فكل مجد تاريخي بُني على ظهور الكفاءات، وكل انهيار حدث كان ثمرة إقصائها وإهمالها، فإما أن تكون الوطنية ممارسة حية نعيشها، أو شعاراً نتغنى به لنغطي تقصيرنا.
لكن زر إعادة التشغيل مازال بين أيدينا؛ ليس قراراً بيروقراطياً يأتي من أعلى بل ثورة أخلاقية تبدأ من أسفل، من تلك الاختيارات الصغيرة التي نصنعها كل يوم فتتراكم لتشكل مناخاً مجتمعياً جديداً. إنها إعادة تشغيل واعية تشبه خريطة طريق لنهضة تمشي على أقدام الوعي. نرسمها بميثاق غير مكتوب: ألا نمنح الفرص إلا لمستحقيها، وألا نقدم إلا الأجدر بالموقع، وألا نقبل بديلاً عن الجوهر مهما طال الطريق، فالوطن الجدير بالحياة هو الوطن الذي تتساوى فيه الفرص بين أبنائه، فيتحدى الكفء نفسه ليبلغ مراتب أعلى، ويبدع الموهوب في مجاله دون خوف من إقصاء أو تهميش، وحينها يشعر الجميع أن ساحة الفرص مفتوحة لمن يستحق، لا لمن يتقدم بوساطة.
فلنضغط هذا الأسبوع زر «ريستارت» ليس لنعود إلى الوراء، بل لنرفع معياراً جديداً للحياة: معياراً تُقاس فيه المناصب بما يُقدم لا بما يُطلب، وتُفتح فيه الأبواب للكفاءة لا للقرابة، ويقف فيه الوطن على قدمين من عدل ووعي. فإذا صلحت المعايير صلح كل ما بعدها، وإذا ساد ميزان الجدارة نهضت الأمم واستقام طريقها، وإما أن نختار هذا الطريق بوعي وشجاعة، وإما أن نترك الواسطة تهدم ما تبنيه كفاءاتنا كل يوم.
back to top