من صيد الخاطر: إِذَا حَكَكْتُ قَرْحَةً أدْمَيْتُها
«إِذَا حَكَكْتُ قَرْحَةً أدْمَيْتُها»، جملة قالها عمرو بن العاص، وقد كان اعتزل الناسَ في آخر خلافة عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنهما، فلما بلغه حَصْره، ثم قَتْله قال: أنا أبو عبدالله إذا حككتُ قَرْحَةً أدميتها، قول له دلالات وفيه عبر، وفيه تنبيه عن نبش ماض مليء بالمآسي، أو حتى التذكير به، لأنه بالتأكيد سيثير البغضاء والعداوات والتفرقة، فالقول أو المثل: «إِذَا حَكَكْتُ قَرْحَةً أدْمَيْتُها» له أمثلة تشابهه، منها: «النَايَمْ لا تِقْعِدْه»، «منبه الّلوه»، و«الحديث ذو الشجون».
الله سبحانه وتعالى حذّر من إثارة الفتن في قوله: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً»، وسبب التحذير من إثارة الفتن لأن ضررها لا يقتصر فقط على الظالمين الذين أشعلوها، بل تشمل الجميع، مما يؤكد أن ضررها عام وشامل وخصوصاً على العوام الجهلة وسقط القوم.
الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال محذراً من الفتن، وناصحاً بالنأي بالنفس عنها: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ»، وعندما سُئِلَ: «أَيُّ المسلِمينَ أفضلُ؟»، قال: «مَنْ سَلِمَ المسلمونَ من لسانِهِ ويَدِهِ»، والفتنة تبدأ باللسان، فهو المحرّض.
الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان، وصاحب سر النبي، صلى الله عليه وسلم، نقل قائلاً في وصف بليغ ومخيف: «تَكُونُ فِتْنَةٌ، فَيَسْتَنُّونَ فِيهَا سُنَنًا، وَيُجْعَلُونَ فِيهَا أَقْوَامًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَيْسَ عَلَيْهَا، وَهُمْ مِنْهَا»، فعند وقوع الفتنة، يقوم الناس بابتدَاع طرق وأساليب وأحكام خاصة بهم يظنونها صواباً، ويجعلونها سُنناً يُحتكم إليها، ويرفعون أشخاصاً إلى منزلة لا يستحقونها.
الخليفة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال محذراً: «كُنْ فِي الفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ، لَا ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ، وَلَا ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ»، فكن على الحياد، ولا تكن طرفاً يُستغل، أي لا تكن ظهراً فيُركَب، ولا تكن مصدر منفعة لطرف، أي لا تكن ضرعاً فيُحلَب، وابن اللبون هنا هو ولد الناقة الذي أتم عامه الثاني.
الصحابة والتابعون ذكروا وحذروا من الفتن، فالحسن البصري قال: «الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل»، فبالبصيرة تُعرف الفتنة وهي قادمة فيتحاشاها الإنسان، أما الجاهل فلا يعرفها إلا بعد أن تقع وتهلك الناس.
إنها الفتن التي فرّقَتْ بين العرب والمسلمين، إنها الفتن التي شرذمت أمتنا على مر العصور، ودقت بينهم إسفين الحقد والكراهية، وسالت دماء بسبب حوادث لا ذنب لأي منّا بها، حوادث جرت قبل مئات السنين، نعم، إنها الفتن بكل أشكالها، لعن الله من يوقظها، إنها فتن أثارت العصبية، وحوّلت الولاء من الأمة إلى الطائفة، أو القبيلة، أو الحزب.