رحلة «كاف» إلى مدينة «دال»

نشر في 11-12-2025
آخر تحديث 11-12-2025 | 22:59
 سليمان البسام

بحثاً عن حِيَلْ علاج العلل، وصل المواطن «كاف» إلى مدينة «دال».

وبما أنه ساذج العقل، طيب القلب، ويسافر لأول مرة في حياته، وقف «كاف» في مطار «دال» ساعات طويلة مشدوهاً أمام قاعاته التي لا تنتهي، وأسطول الطائرات التي لا تُعد ولا تُحصى، فدون في كشكوله، وهو يتقمص هيئة عالم بالتاريخ: «حتماً بدأ بناء هذا المطار في عهد السومريين». ويفسر ذلك بأنه ومنذ نعومة أظافره عايش المحاولات المتواصلة في بلده لتشييد مطار جديد مثل هذا، والذي ما زال حبيس الأماني والخطط الحكومية. 

وصل المدينة فانبهر بنظافة الشوارع، ونعومة الأسفلت، وكثرة الورود، ولأن التعب داهمه فجأة، قرر أن يستلقي قليلاً على كرسي الرصيف. غرق في نومٍ عميق، وأيقظته يدٌ تهز كتفه. فتح عينيه فرأى رجلاً مسناً يسأله بلطف عما يفعل، فأجابه «كاف» بصراحته المعهودة.

تبين أن العجوز كان مهندساً ساهم في تأسيس أول محطة لتحلية مياه البحر في بلد «كاف»، وأنه عاش فيها عقوداً وربى فيها أبناءه وبناته، قبل أن يضطر للهجرة إلى «دال» عام 1991.

بكى «كاف» فرحاً بهذه الصدفة الكونية، وتأثر بذكريات الرجل، وتقاسما الحنين لشواطئ بلد «كاف» واليوم الذي طفح به الحوت الكبير، قبل أن يخرج «كاف» لاكتشاف المدينة. 

في وسط المدينة رأى متحفاً يؤرخ لتاريخ العبودية، فدخله بدافع الفضول، ثم دوَّن في كشكوله: «على الرغم من كل مزايا مدينة دال، إلا أنهم كانوا يعانون في الماضي من نظام عبودية مؤسف. أما نحن فلا يشوب تاريخنا شيء من هذا القبيل، بدليل أنه ليس لدينا متحف من هذا النوع، ولله الحمد».

كان «كاف»، مثل كانديد*، يرى العالم بأبسط معانيه، ولا يدع الوقائع تفسد عليه براءته.

مساءً، وجد «كاف» نفسه في مطعم يشهد حفل عشاء لكبار مخرجي السينما المدعوين لحضور مهرجان سينمائي ضخم. تشجع «كاف» وطلب الميكروفون وبدأ يتحدث بحماس عن تاريخ السينما في بلده، وأمضى وقتاً طويلاً يثرثر عن «بس يا بحر» و«عرس الزين»، وكأن التاريخ توقف هناك، إلى أن ضاق المنظمون ذرعاً وأخرجوه من القاعة بهدوء. فبالنسبة ل «كاف»، السينما انتهت منذ نصف قرن، ولم يكن يعرف أن الأفلام ما زالت تُنتج، وأن هناك اقتصاداً سينمائياً متكاملاً في المنطقة.

في صباح اليوم التالي زار متحفاً لفنان معاصر اسمه م. ف. حسين، فأُعجب بأعماله كثيراً. وعندما اكتشف أن هذا الفنان هندي الأصل حصل على جنسية مدينة «دال» منذ عشر سنوات فقط، توقّف طويلاً عند لوحة التعريف، ولم يفهم شيئاً: 

«كيف تخصص له الدولة متحفاً كاملاً، وهو - وفق قاموس «كاف» - دخيل متسلل متجنس دون وجه حق؟!». 

تذكر أنه في بلده، حتى الفنان المواطن حين يؤسس - على عاتقه - متحفاً لأعماله كما فعل النحات سامي محمد، لا يُسمح له أن يسميه رسمياً «متحف»!!

ضاق صدر «كاف» بعدما امتلأ كشكوله بعلامات التعجب، وآلمه رأسه من كثرة التفكير، وبدأ يشتاق إلى سريره لعله - عبر لذيذ النوم - يصل إلى تحليلٍ شافٍ لهذا اللغز... فالنوم، كما يقول فلاسفة التفاؤل، أفضل طريقة لتأجيل الصداع إلى إشعارٍ آخر.

* بطل رواية فولتير التي تحمل ذات الاسم.

* كاتب ومخرج مسرحي 

 

back to top