المجتمع الذي يخاف من المختلف
المجتمع الذي يخاف من المختلف يربّي أبناءه على فضيلة واحدة: أن يختفوا في الصف. أن يختاروا الأمان في الشَّبه، لا الصدق في أن يكونوا أنفسهم. هناك لا يُكافأ من يفكّر خارج الصندوق، بل من ينجح في أن يكون نسخةً متقنة من الصندوق نفسه؛ ينجو من النقد... لكنه لا ينجو من نفسه.منذ خمسينيات القرن الماضي، أظهرت تجارب عالم النفس سولومون آش (Asch, 1951) أن الإنسان قد يوافق الجماعة وهو يعلم أنها مخطئة، لمجرّد أنه لا يريد أن يبدو شاذاً عن الصف. وفي إعادة حديثة للفكرة، وجدت دراسات معاصرة أن ضغط المجموعة لايزال قادراً على دفع الأفراد لتغيير إجاباتهم حتى عندما تكون الحقيقة واضحة أمامهم. الخوف من العزلة، كما يبدو، أقوى من وضوح القناعة.
وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية عن صحة المراهقين (2024 – 2025) إلى أن ضغط الأقران، ومعايير “الصورة المثالية” التي تُصنع على المنصات الرقمية، من أبرز مصادر القلق لدى الشباب؛ فكلما اتّسع الفارق بين ما يعيشه الشاب وما يرى أنه “المطلوب”، زاد شعوره بأنه أقلّ من الآخرين. وتُظهر دراسة عن ضغط الأقران واستخدام الهواتف (Xu, 2023) أن بعض المراهقين ينجرفون في الاستخدام المفرط لا رغبةً في الشاشة، بل خوفاً من خسارة مكانهم داخل المجموعة. كأن الحضور الدائم شرطٌ للبقاء الاجتماعي.
وفي المدرسة، تتخذ القصة شكلاً أوضح، وتشير أبحاث عن مناخ المدرسة والتنمر (Wang et al., 2013؛ Waasdorp et al., 2022) إلى أن البيئة التي يسودها احترامٌ حقيقي تقلّ فيها احتمالات استهداف الطلاب المختلفين، بينما يتحول الصف ذو المناخ الساخر أو التنافسي الحاد إلى مساحة يختبئ فيها الطالب خلف ما يراه “آمناً”، حتى لو كان بعيداً عن قناعته. المختلف هنا لا يُهاجَم لأنه مخطئ، بل لأنه يذكّر الجماعة بما تحاول إخفاءه عن نفسها.
وبينما يخاف المجتمع من المختلف، تخبرنا الأبحاث بشيءٍ آخر تماماً: الفرق الأكثر ابتكاراً ليست تلك التي يتشابه أفرادها، بل تلك التي يتنوّع فيها التفكير، ويعمّ فيها ما يسمى بالأمان النفسي؛ أن يشعر الفرد أنه يستطيع أن يسأل، ويقترح، ويخطئ دون أن يُقصى. هذا ما أبرزه مشروع “أرسطو” في جوجل وغيره من بحوث الفرق عالية الأداء؛ الأداء لا يصنعه التشابه... بل مساحة الاختلاف الآمن.
ويبقى المشهد الحقيقي في التفاصيل الصغيرة: حين يقول طفلٌ رأياً غريباً على المائدة، أو يرفع طالبٌ يده بفكرة لا تشبه ما اعتاده الصف، أو يقترح شابٌّ حلًا لم يفكر فيه أحد. في تلك اللحظات، دون ضجيج، نقرر إن كان الاختلاف في هذا البيت وهذه المدرسة وهذه المؤسسة نافذةً تُفتح... أم شمعة تُطفأ.
المجتمع الذي يخاف من المختلف سيجد نفسه بعد سنوات يشتكي من غياب المبدعين، وهو الذي علّمهم منذ طفولتهم أن يخافوا من أنفسهم، فالمجتمع الذي لا يحتمل اختلاف أفراده، محكومٌ عليه أن يرى صورته مكرّرة بلا نهاية... ولا يرى أفقاً جديداً واحداً.