الهيكل التنظيمي الجديد لوزارة الصحة... قراءة نقدية في الكفاءة والتكامل (الجزء الثالث الأخير)
اعتمدت وزارة الصحة في 2 ديسمبر 2025 هيكلها التنظيمي الجديد المكوّن من وكيل واحد ووكيلين مساعدين وسبع عشرة إدارة عامة. ورغم أن الخطوة تعبّر عن رغبة في تنظيم البنية الإدارية وتوحيد المسؤوليات، فإن القراءة المهنية المتعمقة— وبعد ما ورد في الجزأين الأول والثاني— تُظهر أنّ الهيكل الجديد ما زال خطوة تنظيمية جزئية لا ترقى إلى مستوى التحول المطلوب في نظام صحي يعاني اختلالات ممتدة. فالهيكل الإداري ليس مجرد إعادة توزيع للصناديق، بل هو انعكاس لرؤية الدولة في إدارة الرعاية وتوجيه الموارد وضمان التكامل بين مستويات الخدمة. ومن خلال المقارنة مع التجارب الخليجية والعالمية، تتبين فجوات جوهرية ينبغي معالجتها قبل التنفيذ.
أولاً: عدم تكافؤ الأعباء بين الإدارات... خلل ينعكس على الأداء والجودة
أبرز ملاحظات الهيكل الجديد غياب التوازن بين الإدارات من حيث حجم العمل والمسؤوليات. فالإدارة العامة للمستشفيات تتحمّل العبء الأكبر من القطاع الصحي، بينما إدارات أصغر تعمل بالمستوى التنظيمي نفسه رغم محدودية نطاقها التنفيذي. هذا التفاوت يخلق فجوة في الحوكمة ويضعف المحاسبة، إذ ترهق إدارات التشغيل الثقيلة بينما يظهر الهدر في الإدارات الأخف. كما لا يبدو أنّ إعداد الهيكل استند إلى منهجية workload simulation المعتمدة في الأنظمة الحديثة، وهو ما يفسّر تضخم الأعباء في جهة وتشتتها في جهة أخرى. والنتيجة هي هيكل لا يترجم السياسة الصحية إلى نتائج فعلية.
ثانياً: فصل الرعاية الأولية عن المستشفيات... تعطيل للتكامل العلاجي
على مدى عقدين، عملت الكويت على ربط الرعاية الأولية بالمستشفيات إلكترونياً، بهدف توحيد المسار العلاجي وتعزيز الكشف المبكر. إلا أنّ الهيكل الجديد يعيد الفصل بين المستويين بطريقة تعاكس التوجه العالمي نحو الرعاية المتكاملة. هذا الفصل يعطّل مسارات الإحالة، ويرفع الكلفة التشغيلية بسبب الازدواجية، ويضعف برامج الوقاية، خصوصاً بعد إلغاء دور مدير المنطقة الصحية الذي كان محور الربط. وأي نظام صحي يفقد وحدته التكاملية يفقد جزءاً كبيراً من قدرته التشغيلية، مهما كانت جودة الهيكل الإداري داخل الوزارة.
ثالثاً: الازدواجية في تقديم الرعاية الصحية... الخلل الأكبر خارج الهيكل
ورغم أنّ الهيكل الجديد يسعى إلى ترتيب الداخل، فإنّه لم يقترب من أكبر إشكال بنيوي في النظام الصحي، وهو الازدواجية بين الجهات المقدّمة للرعاية. فالكويت اليوم تعمل بمنظومات متوازية: المستشفى العسكري، ومستشفى النفط، وخدمات وزارة الشؤون، ومستشفى الجامعة في الشدادية، ومستشفى التأمينات، إضافة إلى وحدات صحية حكومية أخرى. هذا التشظي لم يعد اختلافاً إدارياً، بل أصبح مصدراً للهدر وتكرار البنى التحتية وتضارب القوى العاملة وانفصال ملفات المرضى. وتجاهل هذا الواقع يُفقد الهيكل الجديد قيمته، لأن أي تطوير داخل الوزارة سيبقى محصوراً في جزء من منظومة أكبر لا تزال تعمل بمعايير وسلاسل قيادة منفصلة. والإصلاح الحقيقي يتطلب مظلة وطنية موحدة للتخطيط الصحي، ومعايير تشغيلية موحدة، وربطاً إلزامياً لجميع مقدمي الخدمة ضمن رؤية واحدة ومؤشرات أداء وطنية.
رابعاً: تضخم البيروقراطية وتداخل المهام... إعادة إنتاج الدوائر المغلقة
رغم هدف تخفيف البيروقراطية، فإن الهيكل الجديد يعيد إنتاجها في صورة أخرى، عبر تعدد الإدارات ذات التداخل الوظيفي، وغياب التوصيف الدقيق، وتضخم المسارات الإدارية التي تؤخر القرار وتضعف الاستجابة خصوصاً في قطاعات الطوارئ والجراحة والتجهيزات. وهذا الاتجاه يخالف مبادئ Lean Healthcare المعتمدة خليجياً وعالمياً، والتي تقوم على تقليل الهدر وتبسيط العمليات وتحسين الكفاءة التشغيلية. فالهيكل الإداري الذي لا يُبنى على وضوح الأدوار وتحديد المسؤوليات يتحول سريعاً إلى بيئة طاردة للإنتاجية.
خامساً: غياب القيادة الطبية الموحدة داخل المستشفيات... فراغ يهدد الجودة
من أخطر ملامح الهيكل الجديد إضعافه لموقع القيادة السريرية داخل المستشفيات. فمدير المستشفى يتحول إلى دور إداري محدود، بينما يبقى موقع رئيس الهيئة الطبية غامضاً وغير مرتبط مباشرة بمخرجات الجودة السريرية. هذا التشتت في الصلاحيات قد يؤدي إلى ازدواجية القرار، وغياب المعايير الموحدة، وضعف لجان الجودة والاعتماد. وفي التجارب العالمية، تكون القيادة السريرية ممركزة وواضحة تحت منصب Chief Medical Officer، وهي وظيفة لا تتحمّل الالتباس أو التقسيم.
الخاتمة
يتضح أنّ الهيكل الجديد يمثل خطوة ذات قيمة، لكنه غير كافٍ لإحداث التحول المطلوب في نظام صحي يعاني اختلالات تتجاوز حدود الوزارة إلى مستوى الدولة. فالمنظومة الصحية ما زالت تعاني التشظي، وضعف التنسيق، وتعدد السلاسل التشغيلية، وغياب مظلة وطنية موحدة للتخطيط، وهي عناصر تجعل أي تطوير داخلي محدود الأثر. والكويت تحتاج اليوم إلى رعاية متكاملة، وقيادة سريرية واضحة، وبيانات صحية موحدة، وشراكة مدروسة مع القطاع الخاص، واستعداد جاد لمرحلة التأمين الصحي. واللحظة السياسية الراهنة— في ظل غياب الضغوط النيابية والتكسبات الانتخابية— تمثل فرصة تاريخية لإعادة تصميم النظام الصحي من جذوره، لا مجرد إعادة ترتيب هيكل إداري. وتجارب السعودية والإمارات مثال حي على أن التحول الجذري ممكن حين تتوفر الإرادة والرؤية.