الهيكل الإداري بين التحديث الشكلي والتحوّل الجوهري (الجزء الثاني)

• قراءة في مستقبل وزارة الصحة بعد إعادة التنظيم... القطاع الصحي الخاص الحلقة الغائبة في الهيكل

نشر في 09-12-2025
آخر تحديث 08-12-2025 | 17:30
 محمد الجارالله

يشكل القطاع الصحي الخاص اليوم قرابة عشرين في المئة من الخدمة الصحية في الدولة، ورغم ذلك يدار إدارياً كما لو أنه قطاع هامشي، عبر إدارة تراخيص لا يتجاوز دورها منح الإذن والترخيص والتفتيش.

هذه النظرة لا تعكس حجم القطاع الحقيقي، ولا تعترف بدوره الاقتصادي والصحي، فالقطاع الصحي الخاص ليس قطاعاً تجارياً فحسب، بل مولد وظائف، وجاذب استثمار، ورافد علاجي موازٍ، وعنصر توازن يخفف العبء عن النظام العام. (انظر نظام السعودية والبحرين الذي حول الوافدين للقطاع الخاص).

ومع ذلك، لا توجد في الهيكل إدارة تُعنى بالجدوى الاقتصادية للمشاريع الصحية، ولا وحدات تقدم استشارات للمستثمرين والأطباء، ولا مركز معلومات صحياً اقتصادياً، ولا قواعد بيانات شفافة (يسمح لأي كان الاطلاع عليها والتخطيط على أساسها)، ولا برامج دعم ممنهجة، ولا أجهزة جودة مستقلة للقطاع الأهلي.

اقرأ أيضا

بهذه الصيغة، يُدار قطاع يمثل خمس الخدمة الصحية وكأنه مجرد ملف ترخيص. والتصحيح الهيكلي يقتضي بناء مسار مؤسسي موازٍ يشمل إدارة استراتيجية للقطاع الصحي الخاص، ووحدة تقييم للمشاريع الصحية، ومركز معلومات اقتصاديا، وجهاز متابعة للأداء والجودة، وإدارة علاقات مع المستثمرين الصحيين، لتنتقل العلاقة من التفتيش إلى الشراكة، ومن الرقابة إلى التخطيط المشترك.

فجوة تنظيمية أخرى: غياب إطار الحوكمة المشتركة مع القطاع الخاص

في النظم الصحية المتقدمة، تعمل الحكومة والقطاع الخاص ضمن إطار «حوكمة مشتركة» (Co-Regulation)، حيث يتقاسم الطرفان مسؤولية تحسين الجودة، وضبط التكلفة، وتطوير الخدمات، لكن في الكويت لا يزال القطاع الخاص ينظر إلى وزارة الصحة باعتبارها جهة ترخيص ورقابة فقط، لا شريكاً تخطيطياً.

لو تبنى الهيكل الجديد نموذجاً للحوكمة المشتركة، لكان ذلك سيعيد تعريف العلاقة بين الوزارة والقطاع الخاص، بحيث يصبح الأخير ذراعاً فعالاً لتنفيذ السياسات الوطنية، لا مجرد مقدّم خدمة مستقل. وجود آليات مشتركة للبيانات، وخطط التوسع، وبرامج الجودة، سيحوّل القطاع الخاص من مورد صحي إلى عنصر عضوي داخل النظام الوطني.

حوكمة القرار... لا كثافة المناصب

تقليص عدد الوكلاء خطوة صحيحة من حيث المبدأ، بعد سنوات كانت فيها كثرتهم مدخلاً للفئوية، وتعدد مراكز القرار، وتضارب الصلاحيات، وتكسّبات نيابية، غير أن اختزال القيادات لا يعني بالضرورة ترشيد القرار.

فالاستعاضة عن كثرة المناصب بتركيز السلطة دون منظومة محاسبة واضحة قد تنتج خطراً جديداً لا يقل عن القديم. الإصلاح الحقيقي لا يكون بتقليل الأشخاص، بل بضبط النظام: من يقرر؟ من يوقع؟ من يراجع؟ من يحاسب؟ وفهم ما تعنيه الحوكمة الرشيدة.

وأي هيكل لا يتضمن رقابة مستقلة، وتدقيقاً حقيقياً، ومساءلة مؤسسية، سيعيد إنتاج المشكلة بأسماء أقل، لا إدارة أفضل.

المؤشرات الوطنية للأداء... الأداة الغائبة رغم ضرورتها

أحد أهم عناصر النظم الصحية الحديثة هو وجود «مؤشرات أداء وطنية» -تشمل نسب العدوى، الأخطاء الطبية، نتائج العمليات، فترات الانتظار، نسب إعادة الإدخال، كفاءة التكلفة، رضا المرضى- وتُنشر بشفافية، وتخضع لها جميع المستشفيات الحكومية والأهلية.

غياب هذه المؤشرات عن الهيكل الجديد يجعل من الصعب تقييم الأداء أو قياس التحسن، بل إن غيابها ينتج بيئة إدارية لا يمكن فيها تمييز المتميز من المتأخر، ومن دون هذه المؤشرات يصبح الحديث عن التطوير أو المحاسبة أو الجودة مجرد عبارات نظرية دون أدوات مهنية.

كان من الضروري أن يتضمن الهيكل الجديد إدارة مركزية متخصصة في «البيانات الصحية الوطنية»، مسؤولة عن جمع وتحليل ونشر هذه المؤشرات، وربطها بمسارات المساءلة والترقية والتمويل، هذه الإدارة وحدها كفيلة بإحداث نقلة نوعية في مستوى الشفافية وفي قوة القرار الصحي.

الهيكل الذي يخدم السياسات... لا الأشخاص

الإدارة الحديثة لا تُبنى حول أسماء ولا تُدار بالثقة الشخصية، بل تقوم على وظائف محددة، وسلاسل قرار واضحة، ومؤشرات أداء قابلة للمحاسبة.

الهيكل الناجح هو الذي يحول القرار إلى قرار مؤسسي، ويمنع تضارب المصالح، ويفصل بين التنظيم والتنفيذ، ويخضع القيادة لمؤشرات أداء، ويربط الترقية بالنتائج لا بالعلاقات، ويحاكم الأداء لا النيات.

وفي هذا السياق، كان من الواجب أن يتضمن الهيكل وحدة متخصصة بالحوكمة المؤسسية -تتولى رسم السياسات، وضبط المساءلة، وتطبيق المعايير، ومتابعة النزاهة الإدارية- أسوة بما هو معمول به في دول الخليج التي سبقت في هذا المجال.

غياب «رؤية التكامل الصحي» بين الرعاية الأولية والمستشفيات

من أهم عناصر إصلاح النظم الصحية تطوير التكامل بين الرعاية الأولية والمستشفيات، بحيث لا تعمل كل جهة بمعزل عن الأخرى. في الكويت، لا يزال النظام يميل إلى الانفصال بين المستويات العلاجية، مما يؤدي إلى ازدواجية الجهد، وإرهاق الطوارئ، وعدم وضوح المسارات العلاجية.

كان من الممكن تضمين الهيكل الجديد إدارة مسؤولة عن «المسارات العلاجية الوطنية» -Clinical Pathways- لضمان انتقال المريض بين المراكز والمستشفيات بطريقة منسقة، تقلل من الهدر وترفع الجودة وتزيد الكفاءة.

الخاتمة

الجهد الذي بذلته وزارة الصحة في إعداد هذا الهيكل، واستغرق قرابة عام كامل من العمل، وكان آخر هيكل وزارة يُرفع إلى ديوان الخدمة المدنية، لا يلغي حقيقة أن الهيكل، رغم شكله الحديث، لم يأتِ بحجم الطموح الوطني والعهد الجديد في إعادة بناء نظام صحي عصري. والسبب الجوهري لا يكمن في نقص الإرادة، بل في قصور النظرة إلى النظم الصحية الحديثة وإلى الدور الحقيقي الذي يجب أن تضطلع به الوزارة في المرحلة المقبلة، والأهم عدم مواكبة الإدارة الصحية للنظم الحديثة التي تمر الأيام الثمينة في عهد الإصلاح ولا يتم استغلالها.

فالهيكل الذي يُبنى على الواقع وحده يتقادم سريعاً، أما الهيكل الذي يُبنى على استشراف المستقبل فهو وحده القادر على الصمود. ولنا في دول الخليج أسوة حسنة، إذ أعادت جميعها هندسة نظم الرعاية الصحية وأدخلت التأمين الصحي الشامل.

 

back to top