الهيكل الإداري بين التحديث الشكلي والتحوّل الجوهري (الجزء الأول)
• قراءة في مستقبل وزارة الصحة بعد إعادة التنظيم
تأتي إعادة هيكلة وزارة الصحة في لحظة مفصلية من عمر القطاع الصحي في الدولة، لحظة لا تسمح بالاكتفاء بإعادة ترتيب المواقع، ولا بترحيل المسميات من مخطط قديم إلى قالب جديد، فالتحدي المطروح اليوم ليس إدارياً بحتاً، بل هو تحوّل بنيوي كامل في فلسفة إدارة النظام الصحي، من وزارة تشغيلية مثقلة بالتشغيل اليومي، إلى منظومة تنظيمية تمارس الدور الاستراتيجي والرقابي، وتفصل بوضوح بين التخطيط والتمويل والتنفيذ. وهو الدرس الذي يجب أن تعيه الإدارة الصحية عاجلاً كي لا تضيع الفرصة الثمينة في مرحلة الإصلاح الحقيقي.
لهذا، فإن الحديث عن هيكل جديد يجب ألا ينصرف إلى تقليص عدد الوكلاء أو الإدارات - وهو القرار الذي يُحسب للحكومة - بقدر ما يجب أن ينصرف إلى سؤال جوهري: هل يُجسّد الهيكل رؤية مستقبلية، أم انه مجرد إعادة توزيع للوظائف نفسها بصيغة مختلفة؟
من إسقاط الهيكل إلى إعادة الهندسة المؤسسية
أي هيكل تنظيمي يُبنى على نقل الأدوار القديمة إلى مناصب أقل عدداً، دون إعادة صياغة الوظائف، هو عملياً نقلٌ بالنقل وليس تحوّلاً بالتطوير، فاختزال 10 مناصب إلى 3، دون تغيير جذري في طريقة اتخاذ القرار، أو في علاقة الوزارة بالمستشفيات، أو في آليات الصرف والعقود والتشغيل، يعني تقليصاً في الشكل دون مساس بالجوهر.
الإدارة الحديثة لا تقيس نجاحها بعدد المواقع القيادية، بل بوضوح الصلاحيات، وتجنب المركزية المفرطة في إدارات الوزير والوكيل، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وفصل الاختصاصات، وتخفيف التداخل الوظيفي الذي يشل الحركة ويستنزف القرار، فالهيكل الجيد ليس شجرة تنظيمية تُعلّق، بل خريطة قرار، ومسار مساءلة، وسلسلة عمل تبدأ من السياسة الصحية ولا تنتهي عند توقيع المعاملة.
غياب «الوحدة التنظيمية المحورية» في قلب الوزارة
من العناصر الجوهرية التي غابت في الهيكل الجديد عدم وجود “وحدة مركزية للنظام الصحي” تشكّل العقل التنفيذي للوزارة، على غرار ما هو معمول به في أنظمة الصحة الحديثة. ففي بريطانيا (NHS England)، والسعودية (Health Holding Company)، والإمارات (DHA/DOH)، توجد وحدة أو هيئة تتولى رسم السياسات، ومراقبة الأداء، ومتابعة التكلفة، وتوجيه الموارد، بينما الهيكل الجديد ظل يتعامل مع الإدارات كوحدات منفصلة، لا كبنية مترابطة داخل نظام صحي واحد.
وجود هذه الوحدة كان سيعيد تعريف العلاقة بين الوزارة والمستشفيات، ويحوّل الإدارة من مراقبة تشغيلية إلى قيادة استراتيجية شاملة، لكنه غاب، مما جعل الهيكل أقرب إلى إعادة رسم للأدوار، لا إلى إعادة بناء للنظام الصحي.
فجوة استقلالية المستشفيات: عنصر أساسي لم يظهر في الهيكل الجديد
أحد أكبر التحديات في المنظومة الصحية يتمثل في أن المستشفيات والمراكز التخصصية مازالت تعمل بصفة “إدارات تابعة” أكثر من كونها “مصانع صحية” لها استقلال مالي وتشغيلي ومساءلة قائمة على النتائج، ففي النظم الحديثة، يُمنح المدير التنفيذي للمستشفى صلاحيات واسعة، ويحاسب على الأداء، ونسب العدوى، والنتائج السريرية، وكفاءة التكلفة، أما في الهيكل الجديد، فلا يزال المستشفى جزءاً من بيروقراطية الوزارة، مما يحد من قدرته على التطوير والمساءلة والتحسين السريع، وهذه الفجوة تجعل أي هيكل تنظيمي ناقصاً مهما بدا حديثاً.
خروج مليوني وافد... التحول الذي لم يُستثمر
دخول مستشفيات الضمان الصحي وتحويل ما يقارب مليوني نسمة من غير المواطنين إلى هذه المنظومة ليس تفصيلاً تشغيلياً، بل زلزالاً إدارياً كان يفترض أن يقلب طريقة تفكير الوزارة في مواردها البشرية وعملياتها التشغيلية. وهذا التحول يعني عملياً انخفاض الأحمال التشغيلية بنسبة تقارب الأربعين في المئة، وإعادة تعريف دور الوزارة إلى منظم ومراقب ومشتري خدمة، بدلاً من مقدم خدمة.
لكن الهيكل الجديد لم يعكس استثماراً لهذا التحول، فلم يُعِد النظر في حجم القوى العاملة، ولا في عمليات التشغيل، ولا في توزيع الإدارات بما يتناسب مع الانخفاض الكبير في الضغط التشغيلي، وبذلك بقي الهيكل “ابن النظام القديم”، لا “ابن الواقع الجديد”.
فشل الهيكل في معالجة الباب الأول: الرواتب
الهيكل الجديد لم يتعامل مع الحقيقة الأخطر في النظام الصحي، وهي الباب الأول - الرواتب. إذ لا يمكن لأي إصلاح إداري أن ينجح بينما أكبر كتلة مالية في الموازنة الصحية مازالت تُدار بذات المنطق القديم، رغم تقلص حجم التشغيل الفعلي بعد خروج قطاع الوافدين.
استمرار وجود عشرات الآلاف من الموظفين في منظومة لم تعد تحتاج سوى نصفهم يعني تضخماً بلا إنتاجية، وإجراءات بلا أثر، ونفقات بلا مردود. وهو ما يحوّل الوزارة إلى مؤسسة لتشغيل الرواتب أكثر من كونها جهازاً صحياً منتجاً. ولا توجد دولة في العالم نسبة الإداريين فيها ضعف الأطباء والفنيين كما هي الحال لدينا.
الحوكمة السريرية... البعد الغائب عن الهيكل الإداري
إحدى النقاط المهنية التي لا يظهر لها أثر في الهيكل الجديد هي “الحوكمة السريرية”، أي نظام ضبط الجودة والمساءلة السريرية في المستشفيات، فالهيكل لم يتضمن وحدات مركزية لمراقبة نسب العدوى، أو الأخطاء الطبية، أو نتائج العمليات، أو قياس رضا المرضى، أو مقارنة أداء المستشفيات ببعضها. وهذه الأنظمة ليست ترفاً، بل أساس الإدارة الصحية الحديثة. غيابها يعيد الهيكل إلى حقبة قديمة لا تقاس فيها الجودة إلا بالسمعة أو الانطباع، لا بالبيانات والمؤشرات.
التأمين الصحي للمواطنين... فرصة إصلاحية تضيع أمام غياب الجاهزية
بعد شهر ستبدأ البحرين في تطبيق نظام التأمين الصحي أسوة بدول الخليج الأخرى، والحديث عن التأمين الصحي الشامل لم يعد طموحاً نظرياً بل استحقاقاً زمنياً قابلاً للانفجار إن لم تتم إدارته بعقلانية. غير أن الهيكل الحالي لا يعكس أي استعداد عملي لهذا التحول، إذ لا تظهر فيه إدارات مشتريات صحية استراتيجية، ولا وحدات تسعير خدمات، ولا نظم إدارة مطالبات، ولا أجهزة رقابة مالية طبية مستقلة.
إدارة التأمين الصحي ليست امتداداً بيروقراطياً للوزارة، بل منظومة تقنية معقدة تعتمد على تحليل التكلفة، وضبط المخاطر، وإدارة الإنفاق، وقياس القيمة مقابل المال. وإذا أُدخل التأمين بذات الأدوات القديمة، فإن التجربة ستفشل حتماً، وستتحول المليارات إلى عبء مالي جديد لا إلى إصلاح نوعي.