ريستارت للحياة: الأمان الوظيفي... مظلة تحمي أم حاجز يُطفئ الحلم؟
في زمنٍ تتبدَّل المعايير وتتسارع التحوُّلات، لا يعود ثابتُ الأمس كافياً لغدٍ يتطلَّب جرأةً أكبر ورؤيةً أوسع. ولأن كل شيء قابل لإعادة التشغيل... حتى نحن، فإن هذا الأسبوع يأتي كدعوةٍ صريحة للضغط على زر «ريستارت» في وعينا، لنقف لحظةً نُعيد فيها التفكير في واحدٍ من أكثر المفاهيم حضوراً في حياتنا: ذلك الذي نُسميه «الأمان الوظيفي»، وهل ما زال نعمةً تحمي الطريق... أم أصبح قيداً يحد من خطواتنا؟ فبينما تبدو الوظيفة مظلة تبعث الطمأنينة، قد تتحوَّل، من دون أن نشعر، إلى سقفٍ منخفض يخنق الحلم، ويحوِّل المغامرة من فرصةٍ للنمو إلى تهديدٍ يخشى الكثير الاقتراب منه.يرتبط شباب اليوم بالوظيفة الحكومية ارتباطاً يتجاوز المنطق إلى العادة المجتمعية، فهي بالنسبة لهم الطريق الأضمن، والملاذ الأكثر طمأنينة. ينشأ الشاب على مقولة «الوظيفة الحكومية أمان»، فتتشكَّل داخله معادلة معقدة بين رغبةٍ طبيعية في الاستقرار، وخوفٍ عميق من الفشل. وهكذا، يدخل كثيرون في دائرة انتظارٍ طويلة لفرصة قد لا تصنع مستقبلاً، لكنها تمنحهم شعوراً مؤقتاً بالنجاة. يتردَّد الشاب بين حلمٍ يريده، وخطوةٍ يخشاها، فيختار السكون، مؤجلاً مشروعاً كان قادراً على أن يفتح له أبواباً جديدة.
اجتماعياً، تستمر ثقافة ترى في «الوظيفة المضمونة» معيار نجاح، وفي الاستقرار الثابت غاية نهائية. ومع انتشار هذا الوعي، تتراجع روح المبادرة، وتُصبح المخاطرة كلمة تُخيف بدل أن تُلهم، رغم أن الأمم لا تنهض إلا بشجاعة التجربة والعمل الحُر الذي يفتح أبواباً لا تفتحها الوظيفة التقليدية.
تُدرك حكومات عربية عديدة مسؤوليتها في تمكين الشباب، فتتجاوز جهودها مجرَّد توفير الوظائف إلى خلق منظومة دعم متكاملة تشمل التمويل والتدريب وحاضنات الأعمال وتشريعات محفزة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، تُسهل دخول السوق، وتُعزز بيئة الريادة. إلا أن هذه المنظومة تواجه معضلة جوهرية: فبينما تتكاثر الفرص، تتراجع الجرأة على اقتناصها. لقد تحوَّل الخوف الداخلي إلى حاجزٍ نفسي وثقافي أعتى من تحديات السُّوق ذاته، فظل كثير من الشباب ينتظرون الأمان جالسين على مقاعد الوظيفة، عِوضاً عن أن يشيِّدوا عروشاً لأحلامهم بموهبتهم ومبادرتهم.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى نقلةٍ نوعية في فهم الأمان ذاته؛ فالأمان الحقيقي لم يعد هو المقعد الوظيفي القابل للزوال، بل أصبح مهارة متجددة وقُدرة على التكيف والاستعداد الدائم للتعلم. أن يحمل الإنسان أمانه في عقله ويديه، لا في سجلات مؤسسة قد تتبدَّل سياساتها قبل أن يكتمل حلمه. ولا تكتمل هذه النقلة إلا بتحويل الدعم المؤسسي إلى حِراك ثقافي يُعيد إحياء روح المغامرة الواعية، ويجعل من كل تجربة، حتى المتعثرة منها، خطوة نحو النضج، ومن كل مهارة مكتسبة درعاً ترافق الإنسان أينما اتجه، ليصنع أمانه بنفسه، قبل أن تمنحه إياه أي وظيفة.
فلنضغط هذا الأسبوع زر «ريستارت» ليس لنعود إلى الوراء، بل لنُعيد تعريف الأمان الحقيقي، ولنمنح أنفسنا شجاعة النظر إلى الأمام. فالأمان الحقيقي لا يصنعه الثبات، بل تصنعه عقلية قادرة على التجربة، وقلوب تؤمن بأن المخاطرة طريق للنضج لا سقوط. وهكذا فقط نبني جيلاً يرى في التحدي فرصة، وفي المبادرة مستقبلاً، وفي كل خطوة جديدة اتساعاً لمساحة الحياة.