الإنسان الذي نسي نفسه

نشر في 05-12-2025
آخر تحديث 04-12-2025 | 17:13
 د. أحمد حسين الفيلكاوي

​نعيش في زمنٍ يعرف فيه الإنسان كلَّ شيءٍ عن العالم... إلا نفسه.

​يتابع الأخبار في كل قارة، يحلل الأزمات، يحفظ تفاصيل حياة الغرباء على الشاشات، لكنه لا يجد عشر دقائق يسأل فيها: ماذا يحدث في داخلي أنا؟

​اليوم لا يحتاج الإنسان إلى أن يغادر غرفته كي يستهلك عالماً كاملاً، شاشة صغيرة تكفي، لكن هذا الحضور الدائم أمام الضوء له ثمن. مراجعة منهجية نُشرت في JAMA Psychiatry عام 2022، شملت عشرات الدراسات، وجدت أن ازدياد وقت الشاشة لدى الأطفال واليافعين يرتبط بارتفاع – ولو كان الارتباط ضعيفاً إحصائياً – في مشكلات القلق والاكتئاب واضطرابات السلوك. الرسالة ليست في الرقم وحده، بل في الاتجاه: كلما ابتعدنا عن أنفسنا، دفعَت النفس ثمن ذلك في صمت.

​وفي جامعة ستانفورد، ظهر وجهٌ آخر للمشكلة: «تعدّد المهام الإعلامية» – أن تُشاهِد وتُمرِّر وتُعلِّق في الوقت نفسه – يرتبط بانتباهٍ أكثر هشاشة وذاكرةٍ أضعف، كل شيء يصبح قادراً على خطفك، حتى تنسى ما الذي كنت تريده أصلاً. من يعيش منبهاً لكل إشعار، يصعب عليه أن يصغي لصوته الداخلي، ومن يتفتّت انتباهه، يتفتّت معه إحساسه بذاته.

​تقارير مثل Status of Mind الصادرة عن الجمعية الملكية للصحة العامة في بريطانيا تُظهر أن الاستخدام الكثيف لوسائل التواصل يرتبط بارتفاع معدلات القلق والاكتئاب وضعف صورة الجسد عند الشباب، وأن جيلاً يقيس نفسه بعدّاد الإعجابات ومقارنات الصور يخرج غالباً بشعورٍ عميق بأنه أقل من الجميع. هكذا ينسى الإنسان نفسه وهو يحاول أن يطابق قالباً رقمياً لا يُشبهه. 

​في المقابل، يتحدث علم النفس عن شيء بسيط اسمه: وقت الصمت. دراسات ومقالات متخصصة تشير إلى أن فترات من العزلة الإيجابية – بعيداً عن الضجيج الرقمي – تخفّض التوتر، وتعيد تنظيم الأفكار، وتزيد من وضوح الهوية والقدرة على اتخاذ قرارات أكثر اتساقاً مع قيم الشخص. يكفي أحياناً أن يقضي الإنسان ساعة أسبوعياً في تأمل هادئ، أو مشيٍ بلا هاتف، أو كتابةٍ صادقة، ليرتفع مستوى الوعي بالذات والمرونة النفسية بصورة ملحوظة. 

​المفارقة أن الطريق إلى «اكتشاف الذات» ليس دورةً مدفوعة على منصة، بل لحظات قليلة من الصدق مع النفس. أن تسأل: ما الذي يُتعبني حقاً؟ ما الذي أريده أنا، لا ما يريده منّي الجمهور؟ من أنا عندما تُطفَأ الشاشة ولا يبقى معي إلا صوت ضميري؟

​لسنا مطالبين بأن نهرب من العصر، ولا أن نكسر الشاشات. لكننا مُطالَبون بألا نسمح لها أن تبتلعنا كاملين. أن نحجز لأنفسنا وقتاً لا نُقدِّم فيه عرضاً لأحد، بل نجلس فيه مع أنفسنا كضيفٍ كريم طال غيابه. أن ​​نُربّي أبناءنا على أن لحظة الوحدة الواعية ليست عقاباً، بل مهارة، وأن من لا يحسن الجلوس مع نفسه، سيظل يبحث عنها في عيون الآخرين ولا يجدها.

​أخطر ما يحدث للإنسان ليس أن يجهل العالم، بل أن ينسى نفسه وهو يحفظ كل شيءٍ سواها.

​ومن أراد أن يستعيد نفسه في هذا الزمن السريع فليبدأ بدقائق من الصمت الصادق... قبل أي نقرةٍ جديدة على الشاشة.

back to top