من صيد الخاطر: «مَنْ سَلَكَ الجَدَدَ أمِنَ العِثَار»

نشر في 28-11-2025
آخر تحديث 27-11-2025 | 18:44
 طلال عبدالكريم العرب

«مَنْ سَلَكَ الجَدَدَ أمِنَ العِثَار»، و»الجدد» هنا هي الأرض المستوية بلا عقبات، والعِثَار هو السقوط، أو الزلل، أو التعثّر، فهو مثل يضرب للذي يتجنب الصعاب، ويطلب الأمر السهل، وقد يقال أيضاً: «مَنْ تَجَنَّبَ الخَبَار أَمِنَ العِثَارَ»، و»الخَبَار» هنا هي الأَرض الوعرة بالحجارة واللَخَافِيقُ، واللخافيق هي الشقوق، ومفردها لخفوق.

هذان المثلان يدعوان إلى التأني وعدم السلوك في الأمور الصعبة المليئة بالعقبات التي ستعرقل الوصول إلى الهدف والمراد، وينصحان بسلوك الطرق السهلة الممهدة، حتى ينجو صاحبها من السقوط والتعثّر، ويحضان على عدم اتخاذ أي قرار قبل دراسته، والتأكد من ضمانة تنفيذه، أي عدم المغامرة في مسالك مجهولة أو وعرة قد تكون نتيجتها الفشل أو الندم.

وحكمة «في التأني السلامة وفي العجلة الندامة» تضمن النجاة من الأخطاء التي يسببها التسرع والتهور، ومثلها حكمة «درهم وقاية خير من قنطار علاج»، وحكمة «الحزم سوء ظن بالمستقبل»، وهي تدعو إلى الاحتياط، وتوقُّع الأسوأ والاستعداد له، وهناك حكمة قريبة مما سبق وهي: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»، فاترك الأمور التي تشك فيها وخُذ الواضح منها.

وهذه عقلية ستتعارض بالتأكيد مع آمن به الشاعر التونسي أبوالقاسم الشابي، الذي قال في قصيدته الرائعة والمشهورة «إرادة الحياة»، المليئة بالحث على عدم الخنوع أمام الصعاب:

إذا الشعبُ يومًا أرادَ الحياةَ

فلا بُدَّ أنْ يستجيبَ القدرْ

ولا بُدَّ للَّيلِ أنْ ينجلي

ولا بُدَّ للقيدِ أنْ ينكسرْ

وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْه شَوْقُ الحَيَاةِ

تَبَخَّرَ في جَوِّهَا وَانْدَثَرْ

فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْهُ الحَيَاةُ

مِنْ صَفْعَةِ العَدَمِ المُنْتَصِرْ

كَذَلِكَ قَالَتْ لِيَ الْكَائِنَاتُ

وَحَدَّثَنِي رُوحُهَا الْمُسْتَتِرْ

وَمَنْ لا يحب صُعُودَ الجِبَالِ 

يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الْحُفَرْ

فالبيت الأخير هو الذي يحمل المعنى الأعمق، فهو يحُضّ على تحدي الخوف، والشجاعة في مواجهة الصعاب وتخطي العثرات، لا الخنوع والاستسلام أمام العقبات والمنغصات، وإلا فسيقضي المرء حياته من دون تحقيق أي هدف، حاكماً على نفسه بالعيش في الهامش والضِعة.

الشاعر المتنبي أكد ذلك المعنى قائلاً:

إِذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرومٍ 

فَلا تَقْنَعْ بما دونَ النُّجومِ

فَطَعْمُ الموتِ في أمْرٍ صغيرٍ 

كطَعْمِ الموتِ في أمْرٍ عظيمِ

وقال:

على قدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ 

وتأتي على قدرِ الكرامِ المكارمُ

فصاحب العزيمة العالية يرى أن توافه الأمور لا تليق به، وقد قيل: «عندما تشتد الرياح، لا تُغلق الشراع، بل غيّر اتجاهه».

back to top